معضلة الشرعية في قضية فلسطين


يشغل إعلان إجراء الانتخابات مطلع العام 2010م الفرقاء الفلسطينيين بين أخذ ورد وبين مؤيد لذاك الإعلان ورافضٍ له بحجة أنه يأتي قبل المصالحة، وبين من يدعي الشرعية وتمثيل أهل فلسطين وبين من يصف المدّعي بفاقد للشرعية، وبين من يصف هذا الإجراء بالإجراء الدستوري ومن يصفه بمخالفته للدستور الفلسطيني، فهل ثبتت الشرعية من قبل لأحد من هؤلاء الفرقاء فكانت تصرفاتهم تصرفات "شرعية"؟! وهل كانت اتفاقياتهم بشأن قضية فلسطين اتفاقيات "شرعية" يلتزم بها أو تحترم؟! أم أن هؤلاء لا يملكون من صفة الشرعية سوى زعمها؟!

مع كل فصل من فصول قضية فلسطين وعند كل مفترق طرق تمر به هذه القضية تطفو على السطح قضية الشرعية، ويدعو البعض إلى انتخابات رئاسية أو تشريعية أو بلدية، وتتكرر دعوة الانتخابات هذه كذلك في معظم البلدان العربية والإسلامية كلما ألمّ بنظام الحكم فيها فقدان ثقة أو بانت عوراته واتسعت الخروق في ثيابه البالية.

فما سر الدعوة إلى الانتخابات كفكرة يُروج لها سياسياً وفكرياً؟ وأين تقع في سياق قضية فلسطين؟

يتفق أطراف اللعبة السياسية في بلدان العالم الإسلامي ومنها فلسطين على أن الانتخابات شكل من أشكال ممارسة الديمقراطية وإن اختلفوا على مواعيدها أو نزاهتها أو غير ذلك، وهي (أي الانتخابات بشكلها الراهن) تُعد مطلباً ونهجاً للفرقاء من غير أن يفرقوا-وقوعاً في الخطأ أو بقصد التضليل- بين أسلوب من أساليب الاختيار وبين فكرة تمثل شكل نظام الحكم في مبدأ فاسد تعاني منه البشرية أشد من معاناتها من أكثر الأمراض فتكاً وانتشاراً.

إن الانتخاب أسلوب من أساليب الاختيار ولكنّ هذا الأسلوب لم يكن في يوم من الأيام هو من يحدد وجهة النظر عن الحياة، ولم يكن كذلك هو من يحدد ما الغرض الذي يجوز أن تعقد له انتخابات وما لا يجوز، بل هو أسلوب يصلح لاستخدام البشر جميعاً بغض النظر عن ماهية المبدأ الذي يعتنقون، وبغض النظر عن الشأن الذي يخضع لعملية الانتخاب.

بينما تحمل الديمقراطية في طياتها وجهة نظر عن الحياة وتعمل على استخدام أسلوب الانتخابات لإضفاء الشرعية على السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية المنبثقة من وجهة نظرها، فالديمقراطية تنتهج أسلوب الانتخابات لإضفاء الشرعية على الهيئات المذكورة، وإضفاء الشرعية هذا نابع من وجهة النظر الغربية من أن الشعب هو مصدر السلطات فهو -أو من ينوب عنه- المخوّل الوحيد في الحكم والتشريع والقضاء، فشرعية نظام الحكم لديهم نابعة من وجهة نظرهم، لا من مجرد اعتماد الانتخابات كأسلوب لذلك.

والمسلمون في فكرهم وعقيدتهم يختلفون مع فكرة الديمقراطية اختلافا كبيراً بل إنه اختلاف النقيض للنقيض، فالشرعية لا تُضفى على أحد أو اتفاقية أو عمل ما من خلال استفتاء أو انتخابات بل الشرعية تُكتسب إذا كان العمل متقيداً وملتزماً بالحكم الشرعي، ففي نظر المسلمين وعقيدتهم هناك مصدر واحد للشرعية هو الشرع الإسلامي ولا شرعية سواه، لذا نجد أن الحق سبحانه قد شدد على بطلان كل من يبحث عن شرعية بديلة، أو يلجأ إلى جهات أخرى، بأن سمى تلك الجهات طاغوتاً ووصف من يلهث وراءها بأنه يزعم الإيمان زعماً بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)، بل إنه اعتبر أن من سجية المؤمن الحق أن يسلّم بالحكم الشرعي تسليماً مطلقاً، وأن لا يقبل عنه بديلاً أو خياراً آخر فقال سبحانه (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقوله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). بل إن الإسلام لا يرى وجود السلطات الثلاث التي يتحدث عنها المبدأ الرأسمالي الديمقراطي ولا يعترف بتقسيماتها، وإن كان يرى بأن الأمة هي صاحبة الحق في انتخاب الخليفة الذي يحقق المتطلبات والشروط الشرعية، فالسيادة في الإسلام هي للشرع والسلطان للأمة، فليس للأمة أن تحدد الشروط الواجب توفرها فيمن سيتولى منصب الخليفة، وإن كانت هي من تنتخبه ممن تحققت فيهم الشروط المطلوبة شرعاً.

غير أن المسلمين وبعد غياب دولتهم الإسلامية، دولة الخلافة، وبعد أن نُحي الإسلام عن سدة الحكم، وبعد أن دار الزمان دورته فأصبحت الصولة والجولة للكفار، وطغى مبدؤهم الرأسمالي الديمقراطي، أصبح نهج التفكير الغربي هو النهج المتبع لدى الطبقة السياسية في العالم الإسلامي، وأصبحت الديمقراطية هي السمفونية الوحيدة التي تطرب لها آذانهم وتتغنى بها حناجرهم وهي في حقيقتها تركٌ لأحكام الإسلام وإتباعٌ للمبدأ الرأسمالي الديمقراطي.

وبعد هذا السرد الفكري والنظري الموجز لموضوع الديمقراطية يتضح لنا أهمية طرح موضوع الانتخابات لدى الأطراف الدولية الفاعلة على المسرح الدولي في قضية فلسطين، فالانتخابات يراد لها في فلسطين أن تُخرج من بين الفرقاء من يمثل أهل فلسطين، ليكون وكيلاً "شرعياً" عنه في الحلول السياسية التي أعدتها تلك القوى لهذه القضية منذ عقود عدة، والقائمة على تثبيت كيان يهود كخنجر مسموم في قلب الأمة الإسلامية وحجر عثرة أمام وحدتها، فالقوى الغربية الاستعمارية ومعهم دولة يهود تنطلق من المنطلقات الغربية في التفكير، وهي ترى وتدرك بأن الاحتلال لن يضفي "شرعية" على وجوده في فلسطين وإن كانت له القوة والظهور ما دام محتلاً، فهم حريصون كل الحرص على أن يكون هناك طرف حقيقي يمثل معظم أهل فلسطين ليعقدوا معه الاتفاقيات وليكون أداة تضفي على كيان يهود "الشرعية" التي تملّكهم أرض فلسطين "من وجهة نظرهم"، وهذا يفسر ترحيب الدول الغربية لخوض الحركات الإسلامية غمار هذه الانتخابات، وإن أدت أحياناً إلى خلافات سياسية ونتائج ربما لعقتها الدول الغربية أو حاولت تسخيرها عبر الحصار والتضييق، ولكن خوض هذه الحركات -التي تمثل شريحة كبيرة من المسلمين- لخضم الحلبة السياسية التي تدار دفتها من واشنطن ولندن والانخراط فيما يسميه البعض باللعبة الديمقراطية يعد إنجازاً للدول الغربية وهدفاً ثميناً لها.

إن الدعوة للانتخابات-بعيداً عن التجاذبات السياسية والفصائلية- لتشكيل أو إخراج قيادة أو مرجعية "يفوضها" أهل فلسطين، أو تزعم التفويض تحت ستار الانتخابات الكاذبة، لتلج غمار المفاوضات السياسية أو لتكون مرجعية سياسية فيما يتصل بالقضية الفلسطينية ليكون بيدها الحل والعقد والأمر والنهي، تعد تخلياً عن الشرعية الحقيقة وطلباً لها من غير مظانّها، وتحيل القضية من قضية شرعية إسلامية وقضية مقدسات وأرض خراجية لا يملك أحد حق التصرف والتفريط بها إلى مجرد قضية شعب احتلت أرضه وله أن يتصرف هو أو من ينيبه بما يراه مناسباً ومتلائماً مع الواقع السياسي والظرف الدولي وميزان القوى وما إلى ذلك من المصطلحات التبريرية بغض النظر عن أية أحكام شرعية.
إن الدعوة للانتخابات سواء أكانت باتفاق "مصالحة" بين الفرقاء الفلسطينيين أم بدون اتفاق، وسواء أكانت قانونية قياساً بالدستور الفلسطيني أم ليست قانونية، هي في الحقيقة لإضفاء "الشرعية" بالمفهوم الغربي على من سيمثل أهل فلسطين في حلول التصفية لقضية فلسطين، وموضوع الإختلاف حول موعدها أو شروطها بأن تكون قبل أو بعد المصالحة لا يُخرج الانتخابات في فلسطين عن وصفها آنف الذكر.
إن الشرعية الحقيقية بالنسبة لأهل فلسطين، وهي المستمدة من عقيدتهم وشرع ربهم، قد حكمت بالقول الفصل بأن كيان يهود ليس كياناً شرعياً ويجب قتاله وإخراجه من أرض المسلمين المحتلة، وأن لا أحد من المسلمين علاوة على أهل فلسطين مخولٌ البتة بالتنازل أو المساومة على شبر محتل منها، بل إنه لا حل لها سوى تحريرها، وإن أية اتفاقيات مع كيان يهود المحتل مهما كان من وقّعها، منتخباً كان أو مزوراً، هي اتفاقيات غير شرعية، كما أن كل سلطة تنشأ تحت الاحتلال هي سلطة غير شرعية وكل نظام حكم لا يحكم بالشرع الإسلامي في كل جوانب الحياة هو نظام غير شرعي كذلك، وإن تغنى بالإسلام ورفع شعاره، فالشرعية من وجهة نظر عقيدة المسلمين هي الشرعية المستمدة والمتقيدة بالأحكام الشرعية ولا شرعية سواها.

إن حالة التيه والتخبط التي يعيشها الفرقاء الفلسطينيون وإختلافهم حول مرجعيتهم وشرعية تصرفاتهم لم تكن لتكون لولا أن هؤلاء الفرقاء قد اتخذوا أحكام الإسلام وراءهم ظهرياً وتركوا شرع ربهم وانحازوا للمشاريع والمخططات الغربية بأسمائها ومسمياتها المتعددة، فكانت تصرفاتهم خبط عشواء، ولقد عبر الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلّم- عن حالة التيه هذه عندما خط لصحابته خطا، ثم قال: "هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)"، فهل آن للفرقاء الفلسطينيين أن ينحازوا لشرع ربهم ويتقيدوا بأحكامه وأن ينبذوا كل طواغيت الأرض وأتباعها؟

شيخ الأزهر على خطى الإليزيه والبيت الأبيض

منع الحجاب، حظر النقاب، محاربة الإرهاب، مواجهة التشدد والتطرف، شعارات أعتدنا على سماعها من أفواه أعداء الأمة من قادة الدول الغربية، في فرنسا حيث الرذيلة وهتك الأعراض وكشف العورات وانتهاك المحرمات هي سمة المجتمع، والفضيلة والعفة والحشمة تطهرٌ "مشين" ينبغي التخلص منه وإخراج أهله من بين ظهرانيهم، وفي البيت الأبيض الذي يحارب الإسلام باسم محاربة الإرهاب والتطرف والتشدد،

ليس ذلك غريباً على قوم تمتلئ صدورهم غيظاً وحقداً على المسلمين ويغيظهم كل تمسك للأمة بدينها وكل توجه وتطلع نحوه، وترتعد فرائصهم بمجرد التفكير بإمكانية عودة الإسلام إلى الحياة في دولة، لكن المستهجن والمستنكر أن تصدر تلك الشعارات والدعوات من معقل من معاقل تعليم الإسلام وأحكامه من الأزهر الشريف وعلى لسان كبيره الذي-للأسف- لم يترك فعلاً مشيناً يسيء للأزهر وعلمائه ويناصر فيه الحكام الطغاة والكافرين في حرب الإسلام وأهله إلا فعله، فهل تصدر تلك الأفعال والمواقف عن مؤمن تقي نقي علاوة عن صدورها عن عالم بالشريعة محيط بأحكامها؟!

ليس الغرض من هذا المقال نقاش مسألة النقاب نقاشاً فقهياً كما أن فعل شيخ الأزهر لم ينطلق من منطلقات فقهية بل من منطلقات سياسية واضحة غلّفها بأقوال فقهية وله في ذلك سوابق عديدة، ولا أدل على ذلك من تأييده لفرنسا بمنعها النقاب ومن قبلها غطاء الرأس في المدارس والمؤسسات الحكومية، فمنع شيخ الأزهر ارتداء النقاب في مؤسسة الأزهر هي رسالة عنوانها أن علماء الغفلة من علماء السلاطين ومن ارتمى في أحضانهم والحكام والكفار صف واحدٌ في حرب الإسلام وأهله وأن ما أغاظ فرنسا والدول الغربية من تمسك المسلمين بأحكام دينهم -حتى تلك المتصلة بأحوالهم الشخصية- يغيظهم كما يغيظ أسيادهم، ولسائل أن يسأل هل أصدر شيخ الأزهر قراراً بمنع الزائرات المتبرجات أو الكاشفات لشعورهن من زيارة الأزهر والمعالم التاريخية والإسلامية بل هل أعتبر شيخ الأزهر التبرج فعلاً مشيناً وعادة قبيحة ليست من الإسلام وينبغي الإقلاع عنها أم أنه عدّ ذلك جزءاً من الحرية الشخصية التي ينص عليها المبدأ الرأسمالي الذي يتخذه النظام المصري مصدراً لتشريعاته؟! وهل أبدى شيخ الأزهر امتعاضه من الحصار الخانق الذي يضربه النظام المصري على المسلمين في غزة؟! أم عدّ ذلك جزءاً مما هو لقيصر(مبارك) ولا شأن للإسلام فيه؟!

إن هذه الحادثة وأمثالها تكشف عن مدى الانحطاط الذي وصل إليه علماء السلاطين في موالاتهم للحكام والغرب وعن مدى تفريطهم بأحكام دينهم مقابل دراهم معدودة، ألا تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش.

إن دور العلماء في تاريخ الأمة طوال عصورها كان دوراً ريادياً مؤثراً، فتاريخ الأمة سطر مواقف الصدع بالحق ومواقف العز التي وقفها علماء الأمة فكانت مشاعل هداية لها، فذاك أحمد بن حنبل وذاك أبو حازم وابن جبير وابن المسيب والعز بن عبد السلام وغيرهم، ولقد أدرك الكافر المستعمر منذ اللحظة الأولى أن في الأمة صنفان إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء، لذا نرى بأن الكافر المستعمر قد أعدّ حشداً من علماء السلاطين ليناصروا أتباعه من الحكام وليفسدوا على الأمة دينها، فعلماء السوء والغفلة والحكام هم جوقة واحدة تغرد بتناغم في سرب الاستعمار وتناصره على الأمة في أدق تفاصيل دينها، فهؤلاء هم معاول هدم الدين والعثرة التي تسعى لإعاقة الأمة عن هدفها.

إن في الأمة علماء مخلصين يسعون لنهضتها ويقفون مواقف أسلافهم بالصدع بالحق والجهر به ومناصبة الحكام والكفار العداء كأمثال الغر الميامين الذي اجتمعوا في جاكرتا ملبين نداء الخلافة وساعين لإقامتها في حشد غابت عنه وسائل الإعلام، فهل آن للأمة وبعد هذه المواقف الفاضحة أن تدرك أن علماء السلاطين جزء من واقعها السيئ وأن لا تثق وتنخدع بهم؟! وهل آن لها أن تدرك من هم العلماء بحق فتنفض عمن باعوها في سوق النخاسة وحرّف دينها أو هادن الحكام الطغاة وأسيادهم على حساب قضاياها وتلتف حول العلماء العاملين المخلصين وتسعى معهم ومع العاملين لنهضتها وعزها؟