استفتاء سويسرا القشة التي قصمت "حرية العقيدة"

لا زالت الأفكار الغربية تتداعى فكرة تلو الأخرى ويتكشف للعالم بأسره مدى خطأ وزيف الفكر الرأسمالي الذي طالما تشدق به الغرب ومن ضبع بثقافته، وليس آخرها تداعي فكرة حرية العقيدة.

لقد زعم المبدأ الرأسمالي بأنه يدعو إلى حرية العقيدة بجانب دعوته إلى الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية الرأي، وطوال العقود المنصرمة بقي الغرب يروج لهذه الفكرة باعتبارها هي الفكرة التي تطلق العنان للمرء ليختار الدين الذي يقتنع به، وتنأى بالإنسان عن دائرة التسيير وتبقيه في دائرة التخيير، كما شن الغرب هجوماً عنيفاً على الإسلام باعتباره لا يقبل من المسلم سوى الإسلام ديناً، وهاجم عقوبة المرتد عبر اعتباره هذه العقوبة تخالف حقوق الإنسان الطبيعية وتتنافى مع حرية الاعتقاد، وانساق وراء هذه الهجمة جمهرة من العلماء الذين انبروا للدفاع عن الإسلام فرضوا بأن يكون الإسلام متهماً ورضوا بأن تكون الثقافة الغربية هي مقياس الصحة والخطأ للأحكام الشرعية، كما أنهم قاموا بلي أعناق النصوص بقصد أو بغير قصد لتتلاءم مع الدعاوى الغربية في حرية الاعتقاد، فقالوا إن في الإسلام حرية اعتقاد فالله عز وجل يقول (لا إكراه في الدين) وتجرأ بعضهم على دين الله فعطّل عقوبة قتل المرتد وترك للمرء الخيار بين الارتداد أو البقاء في حظيرة الإسلام.

لكن تعاقب السنين وتقلب الحوادث كان كفيلاً بكشف خطأ وزيف الأفكار الغربية حتى لضعاف النظر، برغم أن من كان له عقل ويحاكم الأفكار محاكمة صحيحة موضوعية وفق معايير عقلية ثابتة، كان قادراً على إدراك فساد المبدأ الرأسمالي وما انبثق عنه من أفكار كفكرة الحريات ومنها حرية الاعتقاد منذ اللحظة الأولى لولادة هذا المبدأ.

لقد فضح استفتاء سويسرا الأخير على حظر بناء مآذن للمساجد هناك ومن قبله منع الحجاب في فرنسا ما تستر به الغرب من دعاويه الكاذبة، ودل على أن فكرة حرية العقيدة هي فكرة كاذبة وفارغة المضمون، وأن الغرب حتى في تطبيق أفكاره يطبقها انتقائياً ووفق أجندات صراع الحضارات.

لقد روج الغرب لفكرة حرية الاعتقاد في بلاد المسلمين في محاولة منه لثني المسلمين عن دينهم وصدهم عن عقيدتهم، عبر تشجيعه للكتّاب والمؤلفين الذي حاربوا الإسلام وكتبوا كتابات ساذجة ضد الإسلام وعقيدته فجعل منهم أدباء ومنحهم الجوائز والألقاب، وعبر الحكام النواطير الذين شجعوا كل توجه يطعن في الإسلام وأحكامه، ولكن الحق أبلج وأقوى، وقوة مبدأ الإسلام الفكرية-برغم ضياع سلطانه- كانت كفيلةً بالتصدي لهذه الهجمة، بل إن الإسلام وعبر حركات وأحزاب وأفراد كان قادراً على أن يرد هذه الهجمة إلى عقر دار الدول الغربية.

ولما ارتد الأمر ليصل بلاد الغرب وبات المبدأ الرأسمالي في مهب الريح حتى في ظل عدم وجود دولة ذات مبدأ وحضارة تجابهه، وأصبحت أعداد من يعتنقون الإسلام من الدول الأوروبية مثار جدل ودافع خوف وهلع لدى الحكومات الغربية خضعت فكرة حرية الاعتقاد للنفي والتبديل. وكذلك صنعت العديد من الحكومات الغربية نفس الصنيع في حرية الرأي، ففكر حزب التحرير مثلاً يُحارب من قبل الحكومات الغربية –كالحكومة الألمانية والبريطانية والروسية- بدعوى أنه فكر متطرف برغم أن تلك الحكومات تعترف بأن حزب التحرير لا يقوم بأعمال مادية ونهجه نهج فكري سياسي، ولكنها تكيل له التهم جزافاً لأنه لا يسير وفق منظمومة الأفكار التي تحاول تلك الحكومات فرضها على الجالية الإسلامية هناك باسم الاندماج، وهي في الحقيقة تسعى لفرض الأفكار الرأسمالية على المسلمين فرضاً وتهدد كل من تسول له نفسه بمخالفة تلك الأفكار بأنه سيلاقي نفس المصير فستكال له التهم وسيوصف بالإرهاب والتطرف سعياً لإسكاته، إذ أن أفكارهم لا تقوى على مجابهة الفكر الإسلامي، الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فتلجأ تلك الحكومات إلى القمع والتهديد حالها كحال الأنظمة الدكتاتورية القائمة في بلاد المسلمين بل كحال الأنظمة الشيوعية البائدة.

بينما من ينعم النظر في مبدأ الإسلام يرى عدالة دعوته وإنصاف أحكامه، برغم أن الكثير من أحكامه الشرعية التفصيلية ليست معللة وعقل الإنسان يقف قاصراً عن إدراك فوائد تلك الأحكام لأنها صدرت من حكيم خبير فوق إدراك عقول البشر. فالإسلام في جانب الاعتقاد دعا البشر لاعتناقه بالدليل العقلي وخاطب عقولهم بالحجة والبرهان ولم يجبر أحداً على اعتناقه، وآيات القرآن الكريم تزخر بالخطابات الموجهة للعقول المفكرة والمستنيرة، كما لم يجبر الإسلام أحداً من أهل الذمة ممن يعيشون في كنف الدولة الإسلامية ولا يدينون بدين الإسلام على اعتناقه بل سنّ لهم أحكاماً حفظت لهم خصوصياتهم، فلهم الحق أن يُتركوا وما يعتقدون ويعبدون، ولكنه خاطبهم بالحكمة والموعظة الحسنة ودعاهم للإسلام لما يمثله من هداية لهم وانعتاق من عبودية الأديان المحرفة والمبادئ الخاطئة إلى عبودية رب العالمين، فمن آمن بالإسلام آمن به عن عقل وبينة، ومن ارتد عنه حُق عليه حكم الله في المرتد، وليس في ذلك ظلماً أو حجراً على عقل الإنسان، فالإسلام لم يلامس قلب الإنسان إلا بعد الاقتناع بالحجة والبرهان ولمن شك في الإسلام ولو بعد حين أن يناقش في صحته فتقام عليه الحجة والدليل، وهذا مغزى الاستتابة التي تسبق حكم قتل المرتد، ومن قامت عليه الحجة والدليل وأراد البغي والفساد شرع للدولة أن تطبق عليه حكم الله في المرتد، فالفكر الصحيح بحاجة إلى مثل هذه العقوبات الرادعة ليُحفظ من عبث العابثين والمفسدين، ولنا في قصة اليهود في زمن الرسول عليه السلام خير مثال على ذلك، فالله عز وجل قد حكى لنا حكاية إفسادهم وعبثهم بقوله سبحانه: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

إن أحكام الإسلام هي أحكام شرعية وليست بحاجة لعقولنا القاصرة لندرك صحتها فهي منزلة من حكيم خبير، وهذه الأحكام عندما طبقت في ظل الخلافة جلبت الخير للبشرية جميعاً حتى أن أهل الذمة قد عاشوا في كنفها آمنين مطمئنين.

إن المبدأ الرأسمالي مبدأ باطل منذ نشأته فهو لم يقم على أساس فكري صحيح بل كانت فكرة فصل الدين عن الحياة مجرد حل لإشكالية وقعت بين رجال الدين والفلاسفة الملحدين لا نتيجة بحث عقلي في الكون والإنسان والحياة، وكل ما بني على هذا الأساس كان باطلاً، ولكن تحكّم الدول الرأسمالية في العالم اليوم وغياب الحكم بالإسلام مكن هؤلاء أن يصولوا ويجولوا ويروجوا بأساليبهم الخبيثة ووسائل إعلامهم الكاذبة لكل من يطعن في الإسلام ويعلي شأن الفكر الغربي، بيد أن فألهم قد خاب وسهمهم قد طاش، فوعي المسلمين المتنامي على أفكار الإسلام وتسارع الأيام والسنين والحوادث كان كفيلاً ليكشف لكل من كان له عقل حقيقة هذا المبدأ الواهن والمتداعي ويكشف أن الغرب إنما يسعى لفرض الرأسمالية على العالم وبالأخص على المسلمين فرضاً ولكنه يتلاعب بالإعلام وبالعقول فيظن الرائي لفكره المتداعي أن في جعبته الماء الزلال وهو في الحقيقة محض سراب.

إن مبدأً يسخر البشر تسخير العبيد لخدمة طبقة رأسمالية قليلة تتحكم في ثروات وموارد البشر ويسخر القوانين والأفكار والعقائد للحفاظ على مصالحهم جدير بالبشر أن يسارعوا في التخلص منه ومن كوارثه، وجدير بالبشر أن يبحثوا عن ملاذ لهم ينير لهم الدرب ويحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم ولن يكون ذلك إلا الإسلام.

الإسلام أولاً وأخيراً ولا غير

بأسلوب مزج بين الجدّ والهزل تارة وبين الاستدلال الفقهي (المغلوط) واستمداد الأحكام من الوقائع بعيداً عن الفقه وأصوله تارة أخرى كتب الشيخ راشد الغنوشي مقالاً له نشر عبر الجزيرة نت بعنوان "الحرية أولاً".



"الحرية أولاً" مقال ملأه الغنوشي بالمغالطات الفقهية والاستدلالات العقيمة وهجر النصوص الشرعية ووصف الأحكام المستمدة منها بالجمود، "الحرية أولاً" نموذج من نماذج التحريف الفكري المسمى بالتجديد زوراً وبهتاناً، وهو كذلك مثال صارخ على من اتخذ من الواقع مصدراً لتفكيره لا محلاً له وحاول إضفاء الصبغة الشرعية على الأفكار التي خلص إليها عقله باسم المصلحة ومقاصد الشريعة وفقه العصر.



قد يصاب القارئ لهذا المقال بالصدمة للوهلة الأولى حينما يذكر أن كاتبه هو أحد قادة الحركات الإسلامية "التجديدية!!" عندما يبحث في المقال عمّا هو متأخر عن الحرية أو ما هو المطلب الذي يأتي ثانياً بعد الحرية ليجد أنه الإسلام وتطبيق أحكامه. ولكن قد تزول تلك الصدمة إذا علم القارئ بأن كاتب المقال قد كان له سوابق عديدة ولوثات فكرية كثيرة حتى عدّه البعض من المجددين (أصحاب دعوى تحريف الدين باسم تجديده).



ولولا انتشار مقال الغنوشي عبر الجزيرة نت وفتح الأبواب الإعلامية أمام كتابات الغنوشي لما أحتاج مقاله هذا للرد لتهافته شرعاً عند من أحاط بأدنى العلوم الشرعية وعند من وعى الفكر الإسلامي.



يعيب الغنوشي في بداية مقاله عمن يقابل الحرية بالإسلام ويعتبر هذه المقابلة "بشعة" لاعتباره أن لا تصادم بين الحرية والديمقراطية وبين الإسلام، وهو في هذا المقام لا يقصد بالحرية التحرر من الاستعمار أو العبودية بل الحرية المنبثقة عن المبدأ الرأسمالي الذي يسميه البعض بالمبدأ الحر أو مبدأ الحريات وهي الحريات الأربع المعروفة بل إنه عاب على بعض الحركات والعاملين في الحقل الإسلامي رفضهم لفكرة الحرية والديمقراطية بقوله (لا تزال جماعات إسلامية تجعل من تكفير الديمقراطية رزقها وشنآن الحرية ديدنها، مجادلة أنه "لا حرية في الإسلام" بل تقيّد بأحكام الشريعة، في تقابل بشع بين الإسلام والحرية، بينما تكتوي شعوبنا بالاستبداد حتى اعتبر ممثل الوسطية الإسلامية الشيخ القرضاوي مطلب الحرية له الأولوية على مطلب تطبيق الشريعة).



ويبدو أن الغنوشي لم يفرق أو تعمد عدم التفريق بين الحرية التي تعني التحرر من الاستعمار والعبودية وبين مبدأ الحرية وهو المبدأ الرأسمالي القائم على عقيدة فصل الدين عن الحياة والذي انبثق منه النظام الديمقراطي كشكل لنظام الحكم الذي يجعل السلطات الثلاث بيد الشعب دون سواه فالتشريع فيه للناس لا لله والسلطات التنفيذية والقضائية للشعب دون أن تقيده أحكام أو تشريعات فالشعب حرٌ في حكم نفسه بالنظام الذي يختار وبالشخص الذي يختار ذكراً كان أم أنثى مسلماً كان أم كافراً.



ولا شك عند من أحاط بأدنى العلوم الشرعية في تصادم هذا المبدأ مع الإسلام الذي جعل أسمى صفات المسلم هي العبودية لله وحده ولا تعني العبودية هنا التقيد بالصلاة والزكاة والصيام فحسب بل التقيد بجميع أحكام الشريعة التي جاءت مكتملة وشاملة لكل جوانب الحياة ومستجداتها، كما أن النصوص الشرعية التي مرّت مراراً وتكراراً على الغنوشي وأمثاله تؤكد هذه الحقيقة الساطعة بما لا يدع مجالاً للشك أو الريبة فالله عزوجل يقول (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ويقول كذلك (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ويقول (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بل إن الحق تبارك وتعالى قد اعتبر ما سوى الإسلام كفراً وطاغوتاً واعتبر من يلجأ إلى التحاكم إليه أنه يزعم الإيمان زعماً وأمرنا بالكفر به ونبذه وتركه بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) أفبعدَ هذه الآيات القطعية الثبوت والدلالة يأتي من ينافح عن اعتبار الديمقراطية بتشريعاتها وأحكامها ونظمها لا تتعارض مع الإسلام بل ويعتبرها مقصداً من مقاصد الشريعة!!! ساء ما يحكمون.



ويتناول الغنوشي في مقاله ما أسماه بمبدأ المواطنة الذي اشتهر بالقول به ويستدل عليه بوثيقة المدينة التي كتبها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة ومن جاورهم من يهود غير مفرق بين الأحكام الشرعية التي تحرم على المؤمن صراحة أن يكون للكافر سبيل أو سلطان عليه وحرمة أن يتولى الكافر الحكم لقول الله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وبين حقوق الرعوية التي تكفلها الدولة الإسلامية لكل من عاش في كنفها مسلماً كان أم ذمياً، فلا يعتبر الغنوشي تولي قبطي لحكم مصر "كارثة وطنية ولا معصية دينية، فالأمة معصومة من الضلال لو خلي بينها وبين حرية الاختيار، فقد عرفت مصر زعماء أقباطا على قدر عال من الوطنية والقبول الشعبي مثل مكرم عبيد، وكان بعضهم مستشارا ومقربا من حسن البنا." بحسب قوله، بل إنه يترحم على من تولوا الحكم من غير المسلمين بقوله "كما عرفت سوريا رئيسا لوزرائها مسيحيا هو فارس الخوري كان أداؤه جيدا وعلاقاته بالإسلام والإسلاميين ممتازة، فلم يخرب البلد، بل خلف وراءه ذكريات طيبة، ليت كل الذين جاؤوا بعده من الانقلابيين المسلمين ساروا سيرته". ويطالب الغنوشي بالتعددية القائمة على غير الإسلام وعقيدته وأحكامه بقوله "لا يزال في أوساط إسلامية معتبرة ضمن التيار الوسطي تردد في الاعتراف بأحزاب علمانية في دولة إسلامية، ومع أن وثيقة الإخوان في الاعتراف بالتعددية خطوة متقدمة فإنها سكتت في هذا الموضع، مع أن تراث أمتنا وسوابقها في القبول بالتعدد الديني والمذهبي متميزة عن أمثالها" ويمضي الغنوشي في استمداده لآرائه من الواقع الذي يعيش بعيداً عن أي نص شرعي أو اجتهاد فقهي بل إنه يستخدم منطق الغرب والحركات العلمانية بضرورة قبول الآخر الذي لا يمت لعقيدة الأمة ودينها بصلة بقوله "إنه لا سند حقيقيا يبرر الخوف على الإسلام من التعددية ومن الحرية عامة، فكل ما أصاب الإسلام والمسلمين كان في غيابهما. إذا كان هناك من خطر حقيقي نخشاه على الإسلام فهو جمود العقول واستبداد السلطان. أما الحرية فخير وبركة ومقصد عظيم من مقاصد الإسلام، تنتفي بانتفائها إنسانية الإنسان ويتعرض دين الله لأشد الأخطار. وكيف تستساغ مطالبة الإسلاميين الأحزاب الحاكمة وغالبها علماني بالاعتراف بها، بينما هم ليسوا مستعدين لأن يبادلوها نفس الاعتراف؟".



ويأتي الغنوشي في مقاله على محاولة الترويج لفكرة خطيرة وهي انتفاء واندثار فكرة الدولة الإسلامية التي يعتبرها نموذجاً تاريخياً لا حكماً شرعياً وحلول الدول الوضعية الإقليمية والوطنية مكانها بقوله (النموذج التاريخي للدولة الإسلامية الذي تأسس على شرعية الفتح قد انهار وحلت محله دول قطرية على أساس الاشتراك بالتساوي في المواطنة) في محاولة يائسة منه لتكريس هذه القطريات والإثنيات ناسياً أو متناسياً مضلِلاً أن المسلمين أمة واحدة وأنهم يدينون بدين واحد وقبلتهم واحدة وأنهم اليوم يتطلعون أكثر من أي وقت مضى إلى عودة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي تلم شملهم وتضمهم تحت راية التوحيد وتطبق عليهم شرع ربهم وهذا الذي يخيف أعداء الأمة الإسلامية منها لا تجارب المشاركة في أنظمة الحكم الجاهلية، ولا "الوسطية" التي يرتمي أصحابها في أحضان الأنظمة التي يصفونها تارة بالاستبدادية وتارة بالإصلاحية وهي أنظمة لا وصف لها ولحكامها سوى بالكفر والظلم والفسق مصدقاً لقول الحق سبحانه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، إن الذي أقلق بوش وبلير وبوتين وساركوزي ليس دولاً وطنية إقليمية صنعوها وصنعوا حكامها على عين بصيرة بل قيام دولة إسلامية واحدة تمتد من اندونيسيا حتى نيجيريا، ولكن يبدو أن الغنوشي لم يسمع بتصريحات قادة الكفر وتخوفات مراكزهم البحثية من عودة الدولة الإسلامية برغم عيشه في لندن!!!



ويصر الغنوشي على المضي في مغالطاته الفكرية والفقهية داعياً إلى تولي المرأة لولاية الأمر أي الحكم معتبراً الرأي الفقهي الذي يقول بحرمة ذلك خطأً موروثاً ومعتبراً أن العبرة "بتحقق المصلحة بصرف النظر عن الجنس. ومصلحة الأمة من الحاكم لا تتأتى من نوع جنسه وإنما من كفاءته في تحقيق العدل، مدار السياسة الشرعية كلها، فحيث العدل حيث شرع الله." متناسياً أن منصب الحكم والخلافة في الإسلام هو منصب شرعي قد نص الشارع عليه وعلى صفات من يتولاه وأمر بعزله في حالة فقدانه لبعض الصفات بل وأمر بالخروج عليه بالسيف إن هو حكم بغير الإسلام، لكن كيف للغنوشي أن يدرك ذلك وعقله وهمّه في محاولة تحريف الأحكام الشرعية وهو يعتبر منصب الحكم "الخلافة" في الإسلام قد اندثر وتحول إلى عصر المؤسسات وذلك ظاهر بقوله "على أنه حتى مع التسليم بأن الحديث المذكور قطعي الدلالة في منع الولاية العظمى عن المرأة، فإن هذا المنصب قد زال جملة، لتحل محله إمارات ورئاسات قطرية محدودة، لا سيما وقد تحولت الدولة في عصرنا مؤسسة محكومة بقوانين وترتيبات تمنع الانفراد بالقرار وتكاد تحوّل الرئاسة إلى مؤسسة رمزية بينما القرار حسب القانون يتخذ بعد التشاور بأغلبية الهيأة المقررة." وهذا قول واضح في رده للحكم الشرعي بسبب تغير الواقع فهو يقول "على أنه حتى مع التسليم بأن الحديث المذكور قطعي الدلالة في منع الولاية العظمى عن المرأة" فالغنوشي يريد جعل الواقع ومتغيراته حَكَماً على الأحكام الشرعية لا أن يجعل الواقع يخضع للأحكام الشرعية فيغير الواقع ليطبق حكم الله بل يريد تغيير حكم الله لينطبق وفق أهوائه على الواقع.



هذا جزء من كل وغيض مما فاض به مقال الغنوشي الذي لا يجد فيه المرء سوى المغالطات واللوثات الفكرية التي يحاول الغنوشي وصمها بالإسلامية بطرحها بسبب منصبه كأحد قادة الحركات الإسلامية التي تدعّي نهضة المسلمين.
لقد كان الأجدر بالغنوشي لو كان حريصاً على نهضة الأمة الإسلامية ورفعتها وتخلصها من استبداد الأنظمة الطاغوتية وقهرها أن يكاتف جهوده مع العاملين المخلصين الساعين لنهضة هذه الأمة وإقامة مشروعها الحضاري الذي سيمثل بديلاً حضارياً للرأسمالية التي اكتوى العالم بلظاها لا أن يعمد إلى بث مغالطاته ولوثاته الفكرية لتكون عائقاً ومضلِلاً للمسلمين عن تلك الغاية السامية فتبقيهم رهن الواقع الذليل الذي يعيشون ورهن الإرادة الدولية الاستعمارية ورهن أفكار الحضارة الغربية النتنة.



(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

معضلة الشرعية في قضية فلسطين


يشغل إعلان إجراء الانتخابات مطلع العام 2010م الفرقاء الفلسطينيين بين أخذ ورد وبين مؤيد لذاك الإعلان ورافضٍ له بحجة أنه يأتي قبل المصالحة، وبين من يدعي الشرعية وتمثيل أهل فلسطين وبين من يصف المدّعي بفاقد للشرعية، وبين من يصف هذا الإجراء بالإجراء الدستوري ومن يصفه بمخالفته للدستور الفلسطيني، فهل ثبتت الشرعية من قبل لأحد من هؤلاء الفرقاء فكانت تصرفاتهم تصرفات "شرعية"؟! وهل كانت اتفاقياتهم بشأن قضية فلسطين اتفاقيات "شرعية" يلتزم بها أو تحترم؟! أم أن هؤلاء لا يملكون من صفة الشرعية سوى زعمها؟!

مع كل فصل من فصول قضية فلسطين وعند كل مفترق طرق تمر به هذه القضية تطفو على السطح قضية الشرعية، ويدعو البعض إلى انتخابات رئاسية أو تشريعية أو بلدية، وتتكرر دعوة الانتخابات هذه كذلك في معظم البلدان العربية والإسلامية كلما ألمّ بنظام الحكم فيها فقدان ثقة أو بانت عوراته واتسعت الخروق في ثيابه البالية.

فما سر الدعوة إلى الانتخابات كفكرة يُروج لها سياسياً وفكرياً؟ وأين تقع في سياق قضية فلسطين؟

يتفق أطراف اللعبة السياسية في بلدان العالم الإسلامي ومنها فلسطين على أن الانتخابات شكل من أشكال ممارسة الديمقراطية وإن اختلفوا على مواعيدها أو نزاهتها أو غير ذلك، وهي (أي الانتخابات بشكلها الراهن) تُعد مطلباً ونهجاً للفرقاء من غير أن يفرقوا-وقوعاً في الخطأ أو بقصد التضليل- بين أسلوب من أساليب الاختيار وبين فكرة تمثل شكل نظام الحكم في مبدأ فاسد تعاني منه البشرية أشد من معاناتها من أكثر الأمراض فتكاً وانتشاراً.

إن الانتخاب أسلوب من أساليب الاختيار ولكنّ هذا الأسلوب لم يكن في يوم من الأيام هو من يحدد وجهة النظر عن الحياة، ولم يكن كذلك هو من يحدد ما الغرض الذي يجوز أن تعقد له انتخابات وما لا يجوز، بل هو أسلوب يصلح لاستخدام البشر جميعاً بغض النظر عن ماهية المبدأ الذي يعتنقون، وبغض النظر عن الشأن الذي يخضع لعملية الانتخاب.

بينما تحمل الديمقراطية في طياتها وجهة نظر عن الحياة وتعمل على استخدام أسلوب الانتخابات لإضفاء الشرعية على السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية المنبثقة من وجهة نظرها، فالديمقراطية تنتهج أسلوب الانتخابات لإضفاء الشرعية على الهيئات المذكورة، وإضفاء الشرعية هذا نابع من وجهة النظر الغربية من أن الشعب هو مصدر السلطات فهو -أو من ينوب عنه- المخوّل الوحيد في الحكم والتشريع والقضاء، فشرعية نظام الحكم لديهم نابعة من وجهة نظرهم، لا من مجرد اعتماد الانتخابات كأسلوب لذلك.

والمسلمون في فكرهم وعقيدتهم يختلفون مع فكرة الديمقراطية اختلافا كبيراً بل إنه اختلاف النقيض للنقيض، فالشرعية لا تُضفى على أحد أو اتفاقية أو عمل ما من خلال استفتاء أو انتخابات بل الشرعية تُكتسب إذا كان العمل متقيداً وملتزماً بالحكم الشرعي، ففي نظر المسلمين وعقيدتهم هناك مصدر واحد للشرعية هو الشرع الإسلامي ولا شرعية سواه، لذا نجد أن الحق سبحانه قد شدد على بطلان كل من يبحث عن شرعية بديلة، أو يلجأ إلى جهات أخرى، بأن سمى تلك الجهات طاغوتاً ووصف من يلهث وراءها بأنه يزعم الإيمان زعماً بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)، بل إنه اعتبر أن من سجية المؤمن الحق أن يسلّم بالحكم الشرعي تسليماً مطلقاً، وأن لا يقبل عنه بديلاً أو خياراً آخر فقال سبحانه (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقوله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). بل إن الإسلام لا يرى وجود السلطات الثلاث التي يتحدث عنها المبدأ الرأسمالي الديمقراطي ولا يعترف بتقسيماتها، وإن كان يرى بأن الأمة هي صاحبة الحق في انتخاب الخليفة الذي يحقق المتطلبات والشروط الشرعية، فالسيادة في الإسلام هي للشرع والسلطان للأمة، فليس للأمة أن تحدد الشروط الواجب توفرها فيمن سيتولى منصب الخليفة، وإن كانت هي من تنتخبه ممن تحققت فيهم الشروط المطلوبة شرعاً.

غير أن المسلمين وبعد غياب دولتهم الإسلامية، دولة الخلافة، وبعد أن نُحي الإسلام عن سدة الحكم، وبعد أن دار الزمان دورته فأصبحت الصولة والجولة للكفار، وطغى مبدؤهم الرأسمالي الديمقراطي، أصبح نهج التفكير الغربي هو النهج المتبع لدى الطبقة السياسية في العالم الإسلامي، وأصبحت الديمقراطية هي السمفونية الوحيدة التي تطرب لها آذانهم وتتغنى بها حناجرهم وهي في حقيقتها تركٌ لأحكام الإسلام وإتباعٌ للمبدأ الرأسمالي الديمقراطي.

وبعد هذا السرد الفكري والنظري الموجز لموضوع الديمقراطية يتضح لنا أهمية طرح موضوع الانتخابات لدى الأطراف الدولية الفاعلة على المسرح الدولي في قضية فلسطين، فالانتخابات يراد لها في فلسطين أن تُخرج من بين الفرقاء من يمثل أهل فلسطين، ليكون وكيلاً "شرعياً" عنه في الحلول السياسية التي أعدتها تلك القوى لهذه القضية منذ عقود عدة، والقائمة على تثبيت كيان يهود كخنجر مسموم في قلب الأمة الإسلامية وحجر عثرة أمام وحدتها، فالقوى الغربية الاستعمارية ومعهم دولة يهود تنطلق من المنطلقات الغربية في التفكير، وهي ترى وتدرك بأن الاحتلال لن يضفي "شرعية" على وجوده في فلسطين وإن كانت له القوة والظهور ما دام محتلاً، فهم حريصون كل الحرص على أن يكون هناك طرف حقيقي يمثل معظم أهل فلسطين ليعقدوا معه الاتفاقيات وليكون أداة تضفي على كيان يهود "الشرعية" التي تملّكهم أرض فلسطين "من وجهة نظرهم"، وهذا يفسر ترحيب الدول الغربية لخوض الحركات الإسلامية غمار هذه الانتخابات، وإن أدت أحياناً إلى خلافات سياسية ونتائج ربما لعقتها الدول الغربية أو حاولت تسخيرها عبر الحصار والتضييق، ولكن خوض هذه الحركات -التي تمثل شريحة كبيرة من المسلمين- لخضم الحلبة السياسية التي تدار دفتها من واشنطن ولندن والانخراط فيما يسميه البعض باللعبة الديمقراطية يعد إنجازاً للدول الغربية وهدفاً ثميناً لها.

إن الدعوة للانتخابات-بعيداً عن التجاذبات السياسية والفصائلية- لتشكيل أو إخراج قيادة أو مرجعية "يفوضها" أهل فلسطين، أو تزعم التفويض تحت ستار الانتخابات الكاذبة، لتلج غمار المفاوضات السياسية أو لتكون مرجعية سياسية فيما يتصل بالقضية الفلسطينية ليكون بيدها الحل والعقد والأمر والنهي، تعد تخلياً عن الشرعية الحقيقة وطلباً لها من غير مظانّها، وتحيل القضية من قضية شرعية إسلامية وقضية مقدسات وأرض خراجية لا يملك أحد حق التصرف والتفريط بها إلى مجرد قضية شعب احتلت أرضه وله أن يتصرف هو أو من ينيبه بما يراه مناسباً ومتلائماً مع الواقع السياسي والظرف الدولي وميزان القوى وما إلى ذلك من المصطلحات التبريرية بغض النظر عن أية أحكام شرعية.
إن الدعوة للانتخابات سواء أكانت باتفاق "مصالحة" بين الفرقاء الفلسطينيين أم بدون اتفاق، وسواء أكانت قانونية قياساً بالدستور الفلسطيني أم ليست قانونية، هي في الحقيقة لإضفاء "الشرعية" بالمفهوم الغربي على من سيمثل أهل فلسطين في حلول التصفية لقضية فلسطين، وموضوع الإختلاف حول موعدها أو شروطها بأن تكون قبل أو بعد المصالحة لا يُخرج الانتخابات في فلسطين عن وصفها آنف الذكر.
إن الشرعية الحقيقية بالنسبة لأهل فلسطين، وهي المستمدة من عقيدتهم وشرع ربهم، قد حكمت بالقول الفصل بأن كيان يهود ليس كياناً شرعياً ويجب قتاله وإخراجه من أرض المسلمين المحتلة، وأن لا أحد من المسلمين علاوة على أهل فلسطين مخولٌ البتة بالتنازل أو المساومة على شبر محتل منها، بل إنه لا حل لها سوى تحريرها، وإن أية اتفاقيات مع كيان يهود المحتل مهما كان من وقّعها، منتخباً كان أو مزوراً، هي اتفاقيات غير شرعية، كما أن كل سلطة تنشأ تحت الاحتلال هي سلطة غير شرعية وكل نظام حكم لا يحكم بالشرع الإسلامي في كل جوانب الحياة هو نظام غير شرعي كذلك، وإن تغنى بالإسلام ورفع شعاره، فالشرعية من وجهة نظر عقيدة المسلمين هي الشرعية المستمدة والمتقيدة بالأحكام الشرعية ولا شرعية سواها.

إن حالة التيه والتخبط التي يعيشها الفرقاء الفلسطينيون وإختلافهم حول مرجعيتهم وشرعية تصرفاتهم لم تكن لتكون لولا أن هؤلاء الفرقاء قد اتخذوا أحكام الإسلام وراءهم ظهرياً وتركوا شرع ربهم وانحازوا للمشاريع والمخططات الغربية بأسمائها ومسمياتها المتعددة، فكانت تصرفاتهم خبط عشواء، ولقد عبر الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلّم- عن حالة التيه هذه عندما خط لصحابته خطا، ثم قال: "هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)"، فهل آن للفرقاء الفلسطينيين أن ينحازوا لشرع ربهم ويتقيدوا بأحكامه وأن ينبذوا كل طواغيت الأرض وأتباعها؟

شيخ الأزهر على خطى الإليزيه والبيت الأبيض

منع الحجاب، حظر النقاب، محاربة الإرهاب، مواجهة التشدد والتطرف، شعارات أعتدنا على سماعها من أفواه أعداء الأمة من قادة الدول الغربية، في فرنسا حيث الرذيلة وهتك الأعراض وكشف العورات وانتهاك المحرمات هي سمة المجتمع، والفضيلة والعفة والحشمة تطهرٌ "مشين" ينبغي التخلص منه وإخراج أهله من بين ظهرانيهم، وفي البيت الأبيض الذي يحارب الإسلام باسم محاربة الإرهاب والتطرف والتشدد،

ليس ذلك غريباً على قوم تمتلئ صدورهم غيظاً وحقداً على المسلمين ويغيظهم كل تمسك للأمة بدينها وكل توجه وتطلع نحوه، وترتعد فرائصهم بمجرد التفكير بإمكانية عودة الإسلام إلى الحياة في دولة، لكن المستهجن والمستنكر أن تصدر تلك الشعارات والدعوات من معقل من معاقل تعليم الإسلام وأحكامه من الأزهر الشريف وعلى لسان كبيره الذي-للأسف- لم يترك فعلاً مشيناً يسيء للأزهر وعلمائه ويناصر فيه الحكام الطغاة والكافرين في حرب الإسلام وأهله إلا فعله، فهل تصدر تلك الأفعال والمواقف عن مؤمن تقي نقي علاوة عن صدورها عن عالم بالشريعة محيط بأحكامها؟!

ليس الغرض من هذا المقال نقاش مسألة النقاب نقاشاً فقهياً كما أن فعل شيخ الأزهر لم ينطلق من منطلقات فقهية بل من منطلقات سياسية واضحة غلّفها بأقوال فقهية وله في ذلك سوابق عديدة، ولا أدل على ذلك من تأييده لفرنسا بمنعها النقاب ومن قبلها غطاء الرأس في المدارس والمؤسسات الحكومية، فمنع شيخ الأزهر ارتداء النقاب في مؤسسة الأزهر هي رسالة عنوانها أن علماء الغفلة من علماء السلاطين ومن ارتمى في أحضانهم والحكام والكفار صف واحدٌ في حرب الإسلام وأهله وأن ما أغاظ فرنسا والدول الغربية من تمسك المسلمين بأحكام دينهم -حتى تلك المتصلة بأحوالهم الشخصية- يغيظهم كما يغيظ أسيادهم، ولسائل أن يسأل هل أصدر شيخ الأزهر قراراً بمنع الزائرات المتبرجات أو الكاشفات لشعورهن من زيارة الأزهر والمعالم التاريخية والإسلامية بل هل أعتبر شيخ الأزهر التبرج فعلاً مشيناً وعادة قبيحة ليست من الإسلام وينبغي الإقلاع عنها أم أنه عدّ ذلك جزءاً من الحرية الشخصية التي ينص عليها المبدأ الرأسمالي الذي يتخذه النظام المصري مصدراً لتشريعاته؟! وهل أبدى شيخ الأزهر امتعاضه من الحصار الخانق الذي يضربه النظام المصري على المسلمين في غزة؟! أم عدّ ذلك جزءاً مما هو لقيصر(مبارك) ولا شأن للإسلام فيه؟!

إن هذه الحادثة وأمثالها تكشف عن مدى الانحطاط الذي وصل إليه علماء السلاطين في موالاتهم للحكام والغرب وعن مدى تفريطهم بأحكام دينهم مقابل دراهم معدودة، ألا تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش.

إن دور العلماء في تاريخ الأمة طوال عصورها كان دوراً ريادياً مؤثراً، فتاريخ الأمة سطر مواقف الصدع بالحق ومواقف العز التي وقفها علماء الأمة فكانت مشاعل هداية لها، فذاك أحمد بن حنبل وذاك أبو حازم وابن جبير وابن المسيب والعز بن عبد السلام وغيرهم، ولقد أدرك الكافر المستعمر منذ اللحظة الأولى أن في الأمة صنفان إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء، لذا نرى بأن الكافر المستعمر قد أعدّ حشداً من علماء السلاطين ليناصروا أتباعه من الحكام وليفسدوا على الأمة دينها، فعلماء السوء والغفلة والحكام هم جوقة واحدة تغرد بتناغم في سرب الاستعمار وتناصره على الأمة في أدق تفاصيل دينها، فهؤلاء هم معاول هدم الدين والعثرة التي تسعى لإعاقة الأمة عن هدفها.

إن في الأمة علماء مخلصين يسعون لنهضتها ويقفون مواقف أسلافهم بالصدع بالحق والجهر به ومناصبة الحكام والكفار العداء كأمثال الغر الميامين الذي اجتمعوا في جاكرتا ملبين نداء الخلافة وساعين لإقامتها في حشد غابت عنه وسائل الإعلام، فهل آن للأمة وبعد هذه المواقف الفاضحة أن تدرك أن علماء السلاطين جزء من واقعها السيئ وأن لا تثق وتنخدع بهم؟! وهل آن لها أن تدرك من هم العلماء بحق فتنفض عمن باعوها في سوق النخاسة وحرّف دينها أو هادن الحكام الطغاة وأسيادهم على حساب قضاياها وتلتف حول العلماء العاملين المخلصين وتسعى معهم ومع العاملين لنهضتها وعزها؟

خاطرة: الزيدي مثالاً من أمة كبتت وظلمت لكنها ستنتصر

أثارت مقابلة الجزيرة مع منتظر الزيدي في نفسي الأشجان وصحبتني العبرات وطربت أذني وشُد انتباهي لسماع الزيدي يقص حكايته في برنامج حوار مفتوح، وبالرغم من أن الحوار لم ينته بعد وبالرغم من أن الحكاية لم تبلغ حلقاتها النهائية بيد أن هذه القصة شكلت في تقديري علامة فارقة وأنموذجاً يحتذى به لأبناء خير أمة أخرجت للناس.

ففي الوقت الذي ينافح فيه البعض عن صولة الدول الغربية في العالم وعن جدارتها لذلك، ويهاجم البعض الآخر الأمة الإسلامية ومبدأها بكلمات صريحة أو من طرف خفي، ويتساءل المغرضون مشككين هل لهذه الأمة إلى خروج من سبيل؟ هل لهذه الأمة من عودة لماض تليد؟ هل لهذه الأمة من سؤدد وعز وتمكين منتظر؟ أم أن التاريخ مزيف؟ أم أن هذه الأمة لم تكن في يوم من الأيام في الريادة والطليعة؟ هل من المعقول أن زيداً وعمراً وعبد الله وعبد الرحمن والقعقاع كانوا يوماً أسياداً للعالم؟ كما هم اليوم جورج وجون وجاك؟

نعم في هذا الوقت العصيب والغريب تأتي قصة الزيدي بعد حادثته لتميط اللثام وتكشف الغشاوة عن حقيقة تلك الحادثة ولتبين حقيقة الدافع الذي يقف خلفها، ولتعطي مثالاً على أبناء الأمة الذين لم تتح لهم فرصة الزيدي من قبل ولم يتمكنوا من التعبير عن فكرهم وشعورهم الذي فاض حتى ملأ الآفاق.

في حكاية الزيدي مثال لمن رفض الضيم ورفض الخنوع والتسليم بالأمر الواقع، وكم من أبناء المسلمين من رضي وتابع وكم منهم من كان شعاره ودثاره(ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قطّاع الرؤوس) أو (الباب اللي بيجيك منه الريح سدوا واستريح)، فهل أغنى عن هؤلاء بعدهم عن ولوج غمار العمل لنهضة الأمة والذود عنها؟! أم أنه أصابهم ما أصابهم؟!

وفي حكاية الزيدي مثال على من قدم مصلحة أمته على مصالحه الشخصية ومن رضي اقتحام الصعاب تاركاً خلفه دنيا طمع فيها الطامعون وتمناها البسطاء والمغفلون،

وفي حكاية الزيدي كذلك دليل ساطع على مدى عبودية الأنظمة لأربابها في واشنطن ولندن وباريس ومدى خضوعها لها وعن مدى الحقد الذي يعتمر صدور زبانية تلك الأنظمة على كل من يؤذي أسيادهم بحذاء أو حتى بكلمة، فهؤلاء قد انحازوا إلى صف أعداء الأمة فكانوا حرباً عليها سلماً لأعدائها،

وفي حكاية الزيدي خير مثال على مدى حرص الأنظمة على إشاعة الفتنة بين المذاهب المختلفة وسعيهم لإذكاء نارها وفي موقف الزيدي خير مثال على مدى رفض الأمة لتلك العصبيات والمذهبيات.

إن حادثة رمي الزيدي لبوش بنعليه ليست حادثة عابرة بل إنها تختزل مدى ما وصلت إليه الأمة من إدراكها للظلم الذي وقع عليها ومدى تقززها من الأنظمة والأوساط السياسية التي استمرأت الذل وعاشت على الاستجداء والمهانة والعبودية،
فالحادثة كانت رسالة لكبير قوى الشر والطغيان الذي تعلقت آمال البعض بوعوده ورؤاه، رسالة عجزت عن إيصالها الجيوش الرابضة في ثكناتها وخجل منها السياسيون الضعفاء والأجراء.

إن حادثة الزيدي قد حظيت بتغطية إعلامية -وحق لها ذلك- لكنها ليست الوحيدة التي تعبر عما وصلت إليه حال الأمة بل إن الكثير من أبناء الأمة صدعوا بكلمة الحق أمام الظالمين وجها لوجه وواجهوا ما أصاب الزيدي ولكن بعيدا عن وسائل الإعلام وهناك في صدور أبناء الأمة الشيء الكثير مما لم يتح لهم إظهاره، ولئن أحيانا الله لأيام وأعوام قادمة لنرين من أبناء المسلمين العجب العجاب سيما إن قامت لهم دولة وقادهم خليفة وإمام نحو ساحات الوغى.

إن أمة أنجبت قادة عظاماً كأمثال الفاروق وخالد بن الوليد وصلاح الدين وقطز لم يكن غريبا عليها ان تنجب أمثال الزيدي ولن يكون غريبا عليها أن تلد أرحام نسائها جيوشاً ممن باعوا أنفسهم رخيصة لعلو شأن أمتهم ولرفع راية التوحيد.

فهل أدرك كل من غفل فظن أن تاريخ الأمة لن يعود وأن الأمة قادرة على أن تستعيد مكانتها؟
هل أدرك كل من شكك بقدراتها أن للأمة ميزات ليست كغيرها وأنها منبع للرجال وأن أبناءها في تضحياتهم وتفانيهم في سبيل الذود عنها وعن مبدئها ليسوا كغيرهم؟
هل أدرك هؤلاء أن الأمة مهما ظُلمت وكُبتت فهي سائرة حتما نحو الظفر؟!
إنه يوم يراه الكافرون ومن لف لفيفهم بعيداً ويراه المؤمنون الذين يتطلعون نحو العز قريباً.

الخطوط الحمراء الفلسطينية: ثباتٌ أم عمى ألوان؟!

تعتبر قضية فلسطين حقلاً خصباً بالأمثلة الحية والواقعية لموضوع الخطوط الحمراء التي يحمل لواءها البعض ويتشدق بالتمسك بها آخرون، وهي حقل خصب أيضاً بالأمثلة على تغير وتبدل هذه الخطوط وانتقالها من اللون الأحمر إلى الأخضر مباشرة أو مروراً باللون الأصفر.


الخطوط الحمراء مصطلح أطلقه مبتكروه للدلالة على تمسكهم بمواقف ومبادئ غير قابلة للتفاوض أو التنازل فدونها الدم والأموال والأولاد، ودرج استخدام المصطلح في الحلبة السياسية ولدى اللاعبين السياسيين، ويكثر استعماله في جولات المفاوضات بين الأطراف المتعددة ويبرز في حالة وجود خلاف فيما بينها، ويلاحظ أن معايير تحديد هذه الخطوط تختلف من أقوام ودول إلى أخرى، فدول تنطلق في تحديد خطوطها الحمراء من منطلق مصالحها الحيوية وأخرى تتبع هوى الحكام والساسة فما يرونه محظوراً لا يصح المساس به اعتبر خطاً أحمراً، وقلة من الدول تلك التي تنطلق في تحديد خطوطها الحمراء من منطلقات مبدئية. وما ينطبق على السياسية الخارجية في تعامل الدول مع بعضها البعض ينسحب على سياسة الدول داخلياً فيما بينها وبين رعاياها فدول تعتبر المساس بأصحاب "السمو" و"المعالي" و"المقامات الرفيعة" خطاً أحمراً فتنكل وتبطش برعاياها إن هم نبسوا ببنت شفة بحق هؤلاء، ودول ترى العلاقة مع الغرب الكافر واستمرارها خطاً أحمراً وشراكة غير قابلة للانفضاض، وأخرى ترى العَلَمَ والنشيد الوطني خطاً أحمراً وهكذا كلٌ ينطلق مما يحمل من أفكار ورؤى للقضايا والأحداث ومستوى تفكير لتحديد خطوطه الحمراء.

بيد أن مصطلح الخطوط الحمراء في البلدان العربية والإسلامية عموماً وفي قضية فلسطين على وجه الخصوص أخذ منحى آخر وأصبح عنواناً وأَمارةً دالة على التنازل عن قضايا الأمة، وأصبحت القضية التي تعتلي سلم الخطوط الحمراء هي عنوان المرحلة القادمة من التفريط والتنازل وتضييع الحقوق على خلاف مفهوم الخطوط الحمراء عند البشر.


وعندما ننهل من قضية فلسطين أمثلة على ما ذُكر تتضح الصورة وتتجلى، فالثورة الفلسطينية انطلقت في ستينات القرن الفائت تحمل في جعبتها غاية تحرير فلسطين من البحر إلى النهر عبر الكفاح المسلح واعتبر هذا الهدف آنذاك الغاية الأسمى للفصائل الفلسطينية، واعتبر تحرير فلسطين كاملة خطاً أحمراً لا حياد أو تراجع عنه وتبع هذا التحديد للخط الأحمر أعمالاً ومؤتمرات وقرارات، فكانت الاغتيالات السياسية لكل من نادى بالحل السلمي عبر المفاوضات مع يهود بحجة تخطيه للخط الأحمر وكان وصف السادات بالخائن الأكبر والمفرط لنفس السبب وكان مؤتمر الخرطوم ولاءاته الثلاث "لا صلح لا تفاوض لا استسلام" إلى غير ذلك، ولكن يفاجئ المرء بمحصلة اعتبار تحرير فلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها خطاً أحمراً لأن أصحاب الخط الأحمر قاموا بتخطيه وفرطوا بفلسطين وقصروها على أراض دون أخرى، وإذا بالخط الأحمر هذا كان عنوان المرحلة التالية وكانت اللاءات والخطوط الحمر مجرد عملية ترويض للقبول بما هو دونها بحجة عدم واقعيتها وضرورة مسايرة المتغيرات الدولية والسياسية وما إلى ذلك من المبررات التي يتقن لغتها اللاعبون السياسيون في الساحة الفلسطينية والعربية، وكذا الخطوط الحمراء الأخرى من حق العودة واللاجئين التي أضاعوها بقبولهم بحدود دويلة هزيلة على الأراضي المحتلة عام 67 وبالتعويض والتوطين المبطن والمخفي، وقل مثل ذلك في القدس وتقسيمها إلى شرقية وغربية، وقل مثل ذلك في حرمة الدم الفلسطيني ووحدة الشعب الفلسطيني والكفاح المسلح والميثاق الوطني فكلها كانت خطوطاً حمراء وأصبحت خطوطاً خضراء مستباحة.


وتعتلي سلم الخطوط الحمراء في وقتنا الراهن قضية الاستيطان ولا يدري المرء ماذا ستكون عاقبة الأيام القادمة وما ستؤول إليه هذه القضية في ظل عبث هؤلاء في فلسطين وقضايا الأمة.


إن كثرة الخطوط الحمراء وتغيرها وتبدلها إلى اللون الأخضر أو الأصفر مراراً وتكراراً أدت في اللاعبين السياسيين في الساحة الفلسطينية إلى أن يصابوا بعمى الألوان ولا سيما ذلك الصنف من هذا المرض الذي لا يميز من أصيب به بين الأحمر والأخضر وبالتالي لم يعد يميز هؤلاء بين المسموح والمحظور لذا لم يكن عجيباً ما ترى وتسمع من قادة العمل الفلسطيني من تناقضات وتنازلات وتفريط وتغيير للمواثيق.


إن التبريرات التي يعتمد عليها المتخطون للخطوط الحمراء دوماً هي مبررات واهية تتناقض مع وصف الموقف أو القضية بالخط الأحمر بل إن الأسس التي ينطلق منها هؤلاء لوصف المواقف والقضايا بالخطوط الحمراء لا تصلح لتكون منطلقاً لتحديد هذه الخطوط، فتحديد هذه الخطوط في القضية الفلسطينية انطلق منها البعض اعتماداً على النظرة الوطنية والإقليمية الضيقة وعلى السير في فلك وتبعية الدول الغربية وتلقف مشاريعها واعتبار هذه المشاريع مشاريع وطنية أو مشاريع تحرر، مما جعل هذه الفصائل تمارس التضليل السياسي تجاه أهل فلسطين مما أسهم بتضييع هذه القضية والتفريط بها مع بقاء تغني هؤلاء بتمسكهم بالخطوط الحمراء والثوابت التي ما عاد يعرف لها المرء رأساً من ذيل.

إن أمة تمتلك مبدأً إلهياً وترى الأمور من منظور مختلف عن بقية البشر ليست عاجزة أو مفتقرة لمن يحدد لها خطوطها الحمراء وثوابتها وقضاياها المصيرية ومواقفها المبدئية، فلقد حدد الوحي لها خطوطها الحمراء المتمثلة في التقيد بالحكم الشرعي وعدم الحيد عنه في كل قضاياها سواء وافق المتطلبات الدولية والمتغيرات السياسية أم لا، وعن ذلك قال سبحانه (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) وعلى حجج الواهمين المطالبين بالسير وفقاً للمتطلبات الدولية والسياسية قال جل من قائل (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)، وفي شأن فلسطين كان تحريرها كاملة وضمها لديار المسلمين هو الخط الأحمر الذي لا يقبل التغير والتبدل وتغيير وتبديل هذا الخط هو تغيير لما نزل به الوحي من حكم، حيث قال سبحانه (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).


إن واجب كل مدعٍ لتحرير فلسطين أخذ على عاتقه العمل لها-إن صدق في إدعائه- أن يعود لحضن أمته وأن يرى الأمور والقضايا والمواقف والثوابت من منظور عقيدتها وأن يترك السير في دهاليز الكذب والخداع والمراوغة التي يتقنها الكافر المستعمر والتي خلّفها للأوساط السياسية في بلاد المسلمين، وإلا فقد انسلخ عنها ورضي بأن يكون عوناً لأعدائها عليها وسيفاً مصلتاً على رقابها، وأنىّ لطليعيّ في أمته أن يكون في صف أعدائها إلا إذا فقد كل معاني الانتماء والجزئية من هذه الأمة.

فعاليات رجب تجوب القارات وتؤكد عالمية مشروع الخلافة


على مدى شهر كامل ويزيد ملأت فعاليات ونشاطات حزب التحرير في ذكرى هدم الخلافة في الثامن والعشرين من رجب عام 1342هـ والموافق للثالث من آذار لعام 1924م الرامية إلى استنهاض همم الأمة وإيقاظ عزائمها للعمل مع العاملين الجادين الساعين لإقامة الخلافة الراشدة الثانية، ملأت سمع الدنيا وبصرها برغم التكتيم والحصار الإعلامي الذي لا زال أعداء الخلافة يضربونه حولها وحول نشاطاتها وفعالياتها،

لقد امتدت نشاطات وفعاليات الحزب إلى القارات الستة ففي فلسطين كانت شرارة العمل وبداية الفعاليات التي لازالت تجوب مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة من أقصاها إلى أقصاها وبرغم محاولات التشويش والتعطيل التي انتهجتها السلطة في محاولة عرقلة هذه النشاطات إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، حتى في مؤتمر رام الله الذي استطاعت السلطة فيه الاستيلاء على مكان انعقاد المؤتمر وتحويله إلى ثكنة عسكرية وإقامة حواجز مكثفة على مداخل كافة المدن الفلسطينية كان هذا المنع ذا أثر عكسي فلقد علا صوت الخلافة من رام الله ووصل صداه إلى كافة بلدان العالم، فما شهده منع المؤتمر من تغطية إعلامية فاق ما يمكن أن يكون لو عقد المؤتمر بوضعه الطبيعي، وتواصلت فعاليات الذكرى في فلسطين من محاضرات ولقاءات ودروس وعرض أفلام وثائقية وتكللت بمؤتمر حاشد في غزة امتاز بأسلوبه ومادته وحضوره، فصرخة للأمة الإسلامية وأهل القوة والمنعة فيها من قلب المسجد الأقصى الأسير حيث كانت بداية هذه الدعوة وانطلاقتها،

ثم توالت فعاليات الذكرى في السودان ومهرجانه الخطابي الحاشد فلبنان ومؤتمره (الجهاد في الإسلام: أحكام راقية، تاريخ مشرق، حاضر يرنو إليه) حيث كان تنزيل أحكام الجهاد على واقعها وبيان فلسفة الجهاد الحقيقية -والتي شوهها المضللون- من أنه سبيل إنقاذ للبشرية لا مجرد حروب طاحنة استعمارية لا همّ لها سوى سفك الدماء ونهب خيرات الأمم كما تفعل الدول الرأسمالية اليوم، وكيف أن المسلمين يقدمون أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل إخراج الناس من عتمة الضلال إلى نور الهدى،

ومؤتمرات في لندن وأوكرانيا في بلاد القرم وآخر في أمريكا بعنوان(سقوط الرأسمالية وصعود الإسلام) والذي حمل رسالة معنوية بانعقاده في كبرى البلدان الرأسمالية فكان هذا الصوت علامة الخير ببزوغ الإسلام بحق وسقوط ما سواه فما عادت الرأسمالية تخدع أحداً، حتى أولئك الذين رحلوا من ديارهم إلى بلاد الغرب قد أدركوا ضرورة العمل للخلافة من بعد ما بان لهم زيف الرأسمالية وضلالها،
ومؤتمر في تنزانيا وندوة في جزر موريشيوس الواقعة بين جزر القمر ومدغشقر، تلك البلدان النائية التي وصلتها دعوة الخلافة في دلالة لا تخفى على مبصر من أن دعوة الخلافة باتت تنتشر أينما حل المسلمون وارتحلوا، قلةً كانوا أم كثرة، في وسط المحيطات أم في الأقطاب المثلجة أم في الأدغال، فدعوة الخلافة باتت ملتصقة بالمسلمين لا انفكاك لهم عنها،

وقلب هذه الفعاليات وذروتها كان مؤتمر العلماء في اندونيسيا الذي ضم أكثر من سبعة ألاف عالم من شتى أقطار المعمورة والآلاف من حملة الشهادات الشرعية والمختصين، في مؤتمر فريد لم يسبق له الحزبَ أحدٌ من الهيئات أو الدول التي تشتري ذمم علماء السلاطين ليفتوا لهم وفق مقاسات ومقاييس ترضي نزواتهم وأسيادهم، مؤتمر تواثق فيه علماء الأمة الحقيقيون الذين آثروا قول الحق والصدع به على نعيم الدنيا الزائل وعلى قصور السلاطين وفرشهم الوثيرة فاجتمعوا وأجمعوا على ضرورة العمل للخلافة وعلى ضرورة أن يأخذ العلماء دورهم وأن يساهموا بسهم عظيم في إقامة صرح الدولة الإسلامية،

ومؤتمر في كندا وآخر في استراليا وآخر في بنغلادش ومسيرات في باكستان وقمع واعتقالات مسعورة لمنع مؤتمر تركيا في اسلامبول حيث توقفت عقارب الزمن هناك بالنسبة للأمة الإسلامية بتوقف الخلافة فيها،
إن عموم وانتشار فعاليات ذكرى رجب الأليمة، ذكرى هدم الخلافة، تزداد عاماً بعد عام وتأخذ بالاتساع أفقيا وعموديا،كمّا ونوعاً، وبالرغم من التكتيم الإعلامي الذي تعاني منه دعوة وفكرة الخلافة إلا أن الأمة والعالم بأسره من أقصاه إلى أقصاه قد شعر وأحس وعاش الكثير من هذه الفعاليات،

إن من يمعن النظر في هذه الفعاليات والنشاطات واتساعها وشمولها وتنوعها يدرك الأمور التالية :
1. إن إعادة الخلافة باتت محل تطلع المسلمين، فلم يعد مشروع الخلافة ضميراً غائباً عنهم برغم محاولة وسائل الإعلام طمسه بطمس الأخبار والفعاليات التي تتصل به ولم يعد دعاته مستترون بل إن الأمة باتت تتطلع بشوق وحرقة إلى إقامة الخلافة التي ستقيم الدين وتطبق الشريعة وتوحد المسلمين، وما جموع المسلمين التي خرجت أحياءً لهذه الذكرى الأليمة في فلسطين واليمن ولبنان واندونيسيا والسودان والجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا وكندا سوى شاهد على مدى تغلغل مشروع الخلافة لأعماق أعماق المسلمين ولو خلّت أنظمة الطغيان والجبروت بين الأمة والتعبير عن رأيها وتوجهها السياسي لرأيتَ الجموع الغفيرة تجتاح حواضر بلاد المسلمين تلهج ألسنتهم بالخلافة ودولة الإسلام، كما أن الأمة قد فقدت ثقتها بحكامها والطبقات السياسية التي تحيط بهم والتي مردت على التبعية الغربية وتغذت على أطباق واشنطن ولندن وباتت تتطلع إلى طليعتها الرائدة التي أخذت على عاتقها العمل لإعزازها والأخذ بيدها نحو السيادة وعلو مكانتها بين الأمم.

2. عالمية مشروع الخلافة، فامتداد تلك الفعاليات والنشاطات لتعم بلاد المسلمين والجاليات المسلمة في بلاد الغرب ولتعم الأسود والأبيض والعربي والعجمي لهو برهان على أن هذه الدعوة تحمل مشروعاً عالمياً لم تحدّه حدود وهمية أو قوميات ضيقة أو وطنيات منحطة بل تخطت دعوة الخلافة الحدود والسدود وباتت أمل البشرية لا المسلمين فحسب في الخلاص مما تعانيه جراء تحكم الرأسمالية فيها، فكما سادت دولة كبرى كأمريكا في العالم فعاثت فيه فساداً وقتلاً وتدميراً ونهباً للخيرات والأموال فسيكون بمقدور الخلافة وحدها أن تعيد الأمور إلى نصابها فتعيد العدل وترفع الضيم والجور وتكون ملاذاً للخائفين ومأوى للفقراء والمساكين والمظلومين في كافة أقطار المعمورة، فالخلافة مشروع حضاري عالمي ينبع من تبني الأمة له ومن عملها على تجسيده في واقع الحياة ثم حمله للأمم والشعوب الأخرى حيث سيعم الخير والطمأنينة البشر.

3. دعوة فريدة لا منافس لها، لقد انفردت دعوة الخلافة في عصرنا الراهن بصفة العالمية في الطرح، فكلٌ من الأحزاب والجماعات المنتشرة في بلدان العالم الإسلامي والغربي باتت صاحبة مشاريع وطنية محلية أو إقليمية محدودة فلا تجد على وجه البسيطة اليوم، دون أدنى مبالغة، سوى دعوة الخلافة تطرح حلاً لمشاكل العالم ويسعى الساعون لها لتكون ملاذاً للعالمين الذين اكتووا بنار الحضارة الغربية، فلم يعد بين البشر اليوم مشروع ينافس مشروع الخلافة كمشروع حضاري عالمي.

4. إن تجاوب المسلمين مع هذه الدعوة في تزايد واطراد وهذا يدحض أقوال بعض المغرضين الذين يحاولون أن يوهموا العامة بأن الخلافة في واد والناس في واد آخر بل إن الأمة ودعوة الخلافة على قلب رجل واحد وسيأتي اليوم الذي ترى فيه أبناء الأمة الإسلامية قاطبة من جاكرتا إلى طنجة متكاتفين في الدفاع عن الخلافة حال قيامها قريباً بإذن الله وما ذلك إلا لأن دعوة الخلافة وتطبيق الإسلام في شتى مناحي الحياة هو التجسيد العملي لمفاهيم الأعماق التي تسكن أفئدة الأمة والتي عجز الغرب عن اقتلاعها بشتى الأساليب والوسائل الشيطانية .

5. إن دعوة هذا شأنها وأبناء خير الأمم هم جندها وإنقاذ البشرية هي غايتها ومن وحي السماء نهجها وفكرها لهي حتماً ستنتصر وتظهر، ستنتصر إحقاقاً للحق وزهقاً للباطل، إقامةً للعدل وهدماً للظلم والطغيان، ستنتصر تحقيقاً لوعد الله بالنصر والتمكين للمؤمنين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) وتحقيقاً لبشرى نبيه الكريم (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) فالخلافة هي قدر البشرية القادم والرحمة المزجاة لهم، وهي من سيعيد للبشرية سجيتها الإنسانية وفطرتها السليمة وطباعها الطيبة من بعد ما اغتالتها شياطين الرأسمالية، ، (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا).

نعم يا عبيدات الخلافة حق وحقيقة ولا يُضيرها ضعف الأفهام

ما الذي يضير الأستاذ راسم عبيدات أن تكون الخلافة حقيقة أو واقع ؟ وما الذي يزعجه في سماع أو قراءة ما يبشر بعودتها من جديد، وما يسلط الضوء عليها وعلى مفاصل هامة تعيشها الأمة مما يحاول البعض إخفاءها أو طمرها ؟

هل دفعته موضوعية البحث والنزاهة الفكرية ليتناول مقالتي (الخلافة حقيقة وليست خيالاً يداعب الأحلام) –وخيالاً بالنصب لا بالرفع كما كتبها عبيدات- دون أن يأتي على ذكر الدعائم التي نصبّتُها شواهد على قولي ؟ أم هي القراءة (العميقة!!) للواقع الذي يخشى الأستاذ عبيدات أن يتفحّصه عامة المسلمين فيلامسوا صدق التحول الحاصل في الأمة فيطيش سهمه ؟! وهل يخفى على الأستاذ عبيدات كيف تتحول الأمم من حال إلى حال حتى يحكم بسرمدية حال الأمة الراهن ؟ أم أن مقياسه لتحول فكر الأمة قد تعطل فلم يعد يدرك فارقاً بين القومية والاشتراكية اللتين كانت الأمة في خمسينات وستينات القرن الفائت تلهج ألسنتها بذكرهما والتعلق بهما وبين تعلق الأمة اليوم بفكرة الخلافة وتطلعها إلى عودتها من جديد ، بل وتطلع من اكتوى بنار الرأسمالية حتى من الغرب لاستعادة الإسلام مبدأً مطبقاً في أرض الواقع ؟! وهل قرأ الأستاذ عبيدات التاريخ بتمعن ووقف على مفاصله على الأقل فيما يتصل بالأمة الإسلامية (لا العربية بحسب تسميته) ؟! وهل وقف ملياً على بشرى الرسول لأصحابه بفتح مصر والشام في وقت لم يكن يأمن فيه أحدهم أن يقضي حاجته ؟ أم أنه عدّ تلك البشارات أمانيّ وهيماناً في الأوهام والفرضيات ؟ وماذا وصف تحققها في أرض الواقع ؟ هل هي (الصدفة!!) و(العبثية المادية) التي تسود الكون؟! أم هي ثمرة عمل وجهد مضنٍ بذله الرسول وصحبه بسيرهم في طريق الصراع الفكري والكفاح السياسي في مكة حتى أقاموا دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة التي سادت الجزيرة في بضع سنين بل وامتدت لاحقا لتشمل أصقاع المعمورة ؟

ثم ما الذي يدفع الأستاذ عبيدات ليستغرب من قدرة حزب التحرير -الذي يعمل في أوساط الأمة ويمتلك وضوحاً للرؤية ومشروعاً متكاملاً- على تغيير الواقع الذي نعيش، ومن إمكانية استجابة أهل القوة والمنعة له كما استجابوا للرسول وصحبه من قبل ؟ هل هو التضليل السياسي والمغالطة الفكرية أم هو سطحية الفهم للتاريخ الذي يحاول استقراءه ؟ والذي لو أمعن فيه لأدرك أن لا سبيل لتغيير واقع أي أمة بدون العمل الفكري والسياسي في أوساطها ، وأنه الذي يكفل بناء القاعدة الشعبية التي تمثل أساس بناء أية دولة.

ومن العجب العجاب أن يجعل الأستاذ عبيدات تاريخ الخلافة تاريخاً أسوداً، ويغفل أو يتغافل عما أحدثته الخلافة من تغيير لمعالم الكون وقتئذ وعما قدمته للبشرية من هدى يقوم على رسالة الإسلام التي أخرجت العباد من عبادة العباد والأصنام إلى عبادة الله رب العباد، ومن علوم ومعارف يشهد لها الكافر والغربي قبل المسلم ؟ وهل مثلت تلك الحوادث التاريخية المبتورة التي ذكرها-بعيداً عن الرد والبحث في تفصيلاتها- هل مثلت تاريخ ألف وأربعمائة عام سادت بها الخلافة وحكمت العالم بالعدل والإنصاف أم كانت مجرد شامات سود في بعير أبيض ؟

فإن كان الأستاذ عبيدات قد قرأ تاريخ الخلافة بمنظار أسود فليتصف بالموضوعية والنزاهة والإنصاف وليعد القراءة مرة أخرى بلا آراء ومواقف مسبقة علّه أن يصيب كبد الحقيقة.

أما ما هي الخلافة التي ندعو لها فهي ما تعمد تشويهها أو إغفالها وهي خلافة راشدة على منهاج النبوة تطبق شرع الله المنبثق عن عقيدة الأمة وتسود العالم وتحكمه بالعدل والإنصاف، تلك الخلافة التي لم يغفل عن مضمونها أعداء الأمة- كأمثال بوش وبلير وكلارك وبوتين وساركوزي - ولم يغفلوا عن التحذير من عودتها.

إن مثل تغير الأمم وتقلّب أحوالها كمثل الماء في القدر، فإنك إذا وضعت تحته ناراً سخن الماء ثم وصل إلى درجة الغليان ثم تحول هذا الغليان إلى بخار يدفع، ويحدث الحركة والاندفاع، لكن البسطاء وسطحي التفكير لا يدركون ما يحل به إلا من بعد أن يصل إلى حالة الغليان المشاهدة بالحس بينما يدرك العليمون بأحوال المجتمعات والأمم مدى السخونة التي يصل إليها المجتمع أولاً بأول فهم دائمو المراقبة لفكر الأمة وحسها، لذا فإن كان خطأ فهم الواقع قد حال بين الكاتب وبين فهم حال الأمة الذي بات يقض مضاجع القوى الغربية الاستعمارية فلا أقل من أن يعيد النظر في الواقع وحال الأمة مرة تلو الأخرى حتى يدرك الواقع كما هو لا كما يريده الظلاميون واليائسون الذين يعيشون حالة من الضعف والانهزامية و"الاغتراب" عن فكر الأمة وحسها، والذين يتسترون خلف عباءات فكرية غريبة عن عقيدة الأمة وفكرها، وإن كان الكاتب قد أدرك الواقع وعمد إلى المغالطة سعياً لتكريس الواقع الذي نعيش فحسبه أن يكون في صف أعداء الأمة المثبطين .

الخلافة حقيقة وليست خيالاً يداعب الأحلام

مع اقتراب عودة الخلافة الثانية راشدة على منهاج النبوة من جديد، ومع ازدياد عدد المطالبين بعودتها من المسلمين بل إنني لا أبالغ إن قلت إن الأمة باتت تجمع على التعلق بدعوة الخلافة وتتطلع لعودتها برغم ما أصابها ويصيبها من فرقة وضعف، وفي ظل هذه الأجواء التي تبشر بعودة الأمة للمكانة المرموقة التي تستحقها وللمهمة الإلهية التي أوكلت لها بإنقاذها للعالم وبذلها للأرواح والأموال رخيصة في سبيل نشر العدل والهدى، ينشط بعض المغرضين ممن باعوا أنفسهم للقوى الغربية الاستعمارية أو ممن رأوا في الهيمنة الغربية قدراً مبرماً بحق الأمة لا سبيل لنجاتها منه، في التشكيك في إمكانية عودة الخلافة زاعمين أنها فكرة خيالية غير قابلة للتطبيق وأنها غير واقعية .


وبالرغم من أن هذه الدعاوى هي دعاوى قديمة قد لصقت بدعوة الخلافة منذ نشأتها إلا أنني وددت الوقوف على هذا الدعاوى وبيان زيفها لا سيما وأننا نعيش إرهاصات عودة الخلافة، إرهاصات لا تدع مجالاً لأي مفكر أو مراقب عربياً كان أم أعجمياً إلا أن يرى بأن الخلافة باتت قاب قوسين أو أدنى وأنها دنت وتدلت ولم يبق على بزوغ شمسها سوى لحظات كالحة من بقايا الليل البهيم .



وإذا أردنا الحديث عن واقعية فكرة الخلافة وكونها أصبحت حقيقة واقعة، لا بد لنا أن نستذكر أن الأمة الإسلامية لا بد لها أن تستوحي فكرها وتوجهاتها من عقيدتها وما ينبثق عنها من فكر، وسواء أدركت الأمة مدى انطباق هذا الفكر على الواقع أم لم تدركه يجب عليها أن تبقى ضمن دائرة التسليم والتطبيق، لأن الأمة ربما يتفاوت إدراكها للأحكام والوقائع بين فترة وأخرى، تبعاً لقوتها الفكرية وضعفها، وتاريخ المسلمين الذي تراوح بين مستويات متعددة من الأفهام للأحكام والوقائع يؤكد على ضرورة بقاء الأمة ضمن الفكر المنبثق عن عقيدتها برغم كل ما يمكن أن يثار حول هذا الفكر والسلوك من تشكيكات وظنون حول جدوى هذا الفكر وإمكانية تحققه مع ملاحظة ديمومة الارتباط والانبثاق بين هذا الفكر وعقيدة الأمة، بينما يجب على الأمة ترك كل فكر لا ينبثق أو يبنى على عقيدتها وإن تراءى لها واقعيته وإمكانية تطبيقه أو سهولته .



إلا أن ذلك لا يعني البتة أن فكرة الخلافة اليوم تستعصي على الأفهام وتحكم العقول بعدم واقعيتها بل إن الظروف والملابسات التي تكتنف العمل لها لا تدع مجالاً للمرء مسلماً كان أم كافراً سوى أن يدرك واقعية الخلافة بل ودنو عودتها بصورة قطعية،



فواقع الأمة بما فيه من ميزات لا تحظى بها كثير من الأمم يدل دلالة لا لبس فيها على أن كل مقومات الدولة المبدئية الواحدة متوفرة ،
فالأمة تمتلك مبدأ واحداً يربطها ربطاً عقائدياً غير قابل للانكسار أو التهتك مما يجعل المسلمين في كافة أقطار المعمورة يشعر بعضهم ببعض ويعيش بعضهم قضايا البعض بصورة طبيعية كالجسد الواحد،



كما أن بلاد المسلمين تتواصل جغرافيا بصورة كاملة مما يجعل وحدتها أمر يسير لا عوائق فعلية أمامها،
ووحدة الأمة في كيان كان حقيقة واقعة لوقت قريب ولمدة زمنية لم يسبق أن اجتازتها أمة من قبل، مما يجعل عودتها لها عودة لسالف عهدها ولواقع كانت تمارسه طوال قرون .


أما آراء وتشكيكات البعض بواقعية مشروع الخلافة وإمكانية تحققه من جديد، فهي آراء قد نبعت من جراء التبعية السياسية للقوى الغربية التي تسعى لدوام سيطرتها على الأمة الإسلامية وتحكمها بها ونهبها لخيراتها واستعبادها لشعوبها أو من جراء العيش في سراديب مظلمة لا يُرى فيها نور أو بصيص أمل،



واعتمدت هذه الآراء على حجج واهية أو مغلوطة ظنها البعض تطعن في واقعية فكرة ومشروع الخلافة، منها التنوع السكاني والمساحات الجغرافية المترامية الأطراف، ومنها التشكيك في قدرة نظام الخلافة على مواكبة المتغيرات العصرية ومنها اختلاف صورة الدولة اليوم عما كانت عليه قبل قرون، ومنها عدم تفاعل الأمة مع طرح الخلافة وعدم إمكانية تطبيق الأحكام الشرعية في عصرنا الراهن، وغير ذلك الكثير من الأقوال المتهافتة والمغلوطة والتي لا تقوى أمام الحشد الهائل من الدلائل القاطعة بواقعية فكرة الخلافة بل وبدنو عودتها من جديد .



والمدقق في كل الأقوال التي ذُكرت يجد أن لها مشكاة واحدة وإن اختلفت في الصورة والمظهر والعبارات، فكل تلك الآراء المشككة لا تعالج مشروع الخلافة وإمكانية عودتها أو واقعيتها بمقاييس عقلية نزيهة أو موضوعية، إذ إنها تنطلق من تكريس الواقع الحالي أو زرع اليأس من إمكانية تغيير هذا الواقع الذي نعيش، وتنطلق هذه الآراء من التشكيك في إمكانية وصلاحية تطبيق الإسلام في الحياة من جديد بل وصلاحية الأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية لكل زمان ومكان، ولا يخفى على مسلم أن هذا الطرح يخرج المرء عن اعتقاده بصلاحية الإسلام وبالتالي يخرجه من زمرة الأمة الإسلامية ويجعله عامل هدم لها ولكيانها، كما لا يخفى مناقضة هذا الطرح لواقع تطبيق الإسلام طوال العصور الماضية على اختلافها وصياغته لها على نسق فريد، وتنطلق هذه الآراء من أن نظام الخلافة لم يكن سوى نظام خاص بمرحلة زمنية معينة وبالتالي فنحن غير مطالبين بتطبيقه في زماننا الراهن مما يجعل حامل هذا الرأي يفتش عن كل المبررات التي يراها تقف سداً في وجه هذا المشروع، وتنطلق هذه الآراء أيضاً من أن نظام الخلافة كان نتيجة توافقية بين القوى السياسية الفاعلة في عهد الصحابة وتوارثته الأمة ولم يكن نظاماً منصوصاً عليه ضمن الشريعة الإسلامية ولا يخفى على مسلم أن هذا الطرح يتجاهل النصوص الصريحة التي جاءت تدل على فرضية الخلافة والبيعة لإمام دار العدل وتتجاهل أن إقامة الرسول عليه السلام للدولة الإسلامية الأولى كان وحياً من الله له وتشريعاً وجب على الأمة أن تقتفي فيه أثر الرسول صلى الله عليه وسلم .



إن القول بقدرية الواقع الذي تعيشه الأمة وعدم إمكانية أو واقعية لمّ شملها وإعادتها دولة كبرى هو قول ينافي الشرع والواقع وسنة التغيير.
إن دلائل عودة الخلافة كثيرة وهي ذاتها دلائل واقعية هذا الطرح ،



فالفكرة حتى تعتبر خيالية غير واقعية تكون من نسج الأوهام والتخيلات والفرضيات، بينما فكرة الخلافة تمتلك مشروعاً متكاملاً وتأصيلاً شرعياً مستمداً من مبدأ الإسلام، تمتلك فكرة الخلافة طريقة للوصول إليها والأنظمة التي ستطبقها بأدق التفاصيل، وطريقة الوصول إليها هي نفسها الطريقة الوحيدة العملية التي بها تغير الأمم وبها تبنى الدول المبدئية، كما أن أنظمتها سبق أن طبقت تطبيقاً عملياً جلب الخير والطمأنينة للبشرية جميعاً، وهذا كله يجعل فكرة الخلافة فكرة عملية وواقعية .



كما أن الحديث عن خيالية فكرة الخلافة يتلاشى عند الوقوف على مدى ما وصلت إليه الأمة في سيرها في هذا المشروع، فكل متدبر لحال الأمة ولما أصابها من تغيرات في فكرها وسلوكها يدرك أن عودة الخلافة باتت أقرب من أي وقت مضى، ولعل هذا الإدراك الذي ربما يخفى على البعض هو ما دفع العديد من قادة الغرب والسياسيين والمفكرين من التنبؤ والتخوف من عودة الخلافة في غضون عقد أو يزيد .
إن الأمة الإسلامية باعتقادها بعقيدة الإسلام لا تملك من ناحية عقلية سوى أن تطبق النظام الذي انبثق عن هذه العقيدة وإلا بقيت متردّية متخلفة، وهي بامتثالها لأحكام ربها لا تملك سوى إقامة الخلافة وتطبيق الإسلام باعتبار ذلك حكماً شرعياً ثابتاً، فالخلافة لدى الأمة تخرج عن وصف الواقعية والحقيقة إلى الوجوب واللزوم،



إن الخلافة قائمة لا محالة، بها وعدنا الله، وبها بشرنا الرسول الأكرم عليه السلام، ولها يسعى الساعون المخلصون لإقامتها وبالأمة ومعها ستقوم قريباً بإذن الله، وستسود العالم وسيعمه الخير، فالخلافة هي أمر الله وقدره، وأنىّ لبشر أن يجابه القدر ؟!

خطاب نتنياهو وصلف واستكبار يهود

تحت وقع التصفيق ومحاكاةً للرئيس الأمريكي من قبله، صعد رئيس وزراء يهود منبر الخطابة متعجرفاً، مستلهماً جذور أجداده التاريخية زاعماً أن لهم حقاً في فلسطين، مانّاً على أهل فلسطين بالسماح لهم بسكنى أراضي ما أسماها بيهودا والسامرة، فما الذي دفع هذا ليستخف بأمة تربو على المليار ؟! وما الذي جرّأه حتى يرعد ويزبد ويتوعد ؟ وهل اليهود بحق يمتلكون من القوة ما يدعوهم إلى الغرور والعنجهية ؟ أم أنهم يستقوون بغيرهم ويأمنون عدوهم ؟ وهل اليهود بحق يريدون السير في أي مشروع "سلمي" مهما كانت تفصيلاته ومهما كان يحوي من تحقيقٍ لمصالحهم ؟ أم أنهم كطبعهم يخادعون ويماطلون ؟


لا يختلف اثنان على إن خطاب نتنياهو اتصف بالصلف والعنجهية والاستكبار، كما لا يختلف اثنان على أن نتنياهو قد ضرب بخطاب أوباما بخصوص قضية فلسطين وتصريحات كلينتون عرض الحائط على خلاف ما زعمه أوباما نفسه عندما صرح قائلاً بأن خطاب نتنياهو كان "خطوة مهمة إلى الأمام" وكذلك فعل الإتحاد الأوروبي، فما الذي دفع يهود للعلو والاستكبار ؟ وإلى متى سيبقى هؤلاء يتشدقون بقوتهم وجبروتهم، ودولتهم أوهى من بيت العنكبوت ؟! وهل اليهود بحق قادرون على أن يقفوا في وجه المخططات الغربية أم أنهم مكوّن أساسي لها ؟!

لقد شخّص لنا الحق سبحانه واقع يهود وواقع قوتهم وأسبابها بقوله (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ)، وهذه الحقيقة هي ما نطق بها تاريخ اليهود، فمرة قد علا شأنهم وارتفع زمن الأنبياء من قبل ومن ثم ارتدوا على أعقابهم ناكصين نتيجة كفرهم وتكبرهم وقتلهم للأنبياء والمرسلين، ومرة أخرى ما نشهده في العصر الراهن من العلو والاستكبار نتيجة دعم القوى الغربية لهم وإقامتهم لكيان يهود هذا، ومخطئ من ظن أن يهود قد بنوا كيانهم نتيجة تضحيات الشعب اليهودي وتفانيه في بناء دولته ،

إن اليهود بحق ليسوا أهل حرب بل إنهم لم يخوضوا حرباً حقيقية واحدة على مدى عصورهم وكل ما يشاع عن حروب عام 48 و67 لم يكن سوى مسرحيات قد لعبوا فيها دور البطولة دون أن يتقنوه، وما أحداث تموز وغزة الأخيرة سوى عينة صغيرة وصورة متواضعة للمشهد اليهودي الحقيقي الذي يتستر خلف حصون وهالة كذابة، ولكم في التاريخ عبرة ومثال على سلوك هؤلاء فقد كانوا قد توعدوا النبي عليه السلام عقب غزوة بدر بقولهم علوا واستكبارا "يا محمد لا يغرنك أنك قاتلت نفراً من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، انك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا " ولكنهم سرعان ما هربوا خائفين جبناء عندما شاهدوا زحف المسلمين نحو خيبر قائلين "محمد وافق، محمد والخميس"، كما أنهم ليسوا شعباً مكافحاً في سبيل قضية كما يزعمون، وإنما كانوا ولا زالوا مجرد أداةٍ بيد القوى الغربية الاستعمارية التي أرادت زرع كيان يهود منذ عهد نابليون حتى نجحت بإقامته عام 1948، ليكون هذا الكيان خنجراً مسموماً في قلب الأمة الإسلامية، وليحول بينها وبين التوحد من جديد وليكون قاعدة عسكرية متقدمة للدفاع عن الغرب وليكون شماعة وألهّية لينشغل بها المسلمون عن عدوهم الحقيقي المتمثل بأمريكا والإتحاد الأوروبي، وهذه النظرة توارثها الغرب عن أسلافه قادة الحروب الصليبية في نظرتهم لسواحل بلاد الشام وسعيهم الدؤوب للسيطرة عليه. لذا تجد أمريكا وأوروبا تمد يهود بحبل الحياة وبحبل القوة والتجبر مما يدفعهم إلى الاستعلاء والاستكبار والعربدة على المنطقة بأسرها لا سيما مع وجود حكام اتخذوا من الاستخذاء وحماية كيان يهود مهمة لهم فظن يهود أنهم من القوة والصولة والجبروت بمكان وما هم في الحقيقة سوى مجرد دولة من ورق ونمر من نسج الأوهام (مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).

إن كيان يهود ليس سوى مجرد أداة يستخدمها أعداء الأمة الحقيقيون من أمريكان وأوروبيين فلا بد للأمة أن تدرك أن هؤلاء هم أعداؤها وهم من أقام هذا الكيان المسخ وهم من يمده بأسباب الحياة والقوة، فالمعركة بين الأمة والقوى الغربية الاستعمارية وإن كان كيان يهود هو حلبة الصراع وساحة المعركة، لا بد للأمة أن تدرك هذه الحقيقة وتداوم على تذكرها لئلا تركن إلى أعدائها فتزل أقدامها، وتنخدع بمن تزين لها وبدا بثياب الواعظين،

فإذا ما أدركت الأمة صعيد المعركة لن تنخدع بخطاب أوباما ووعوده ولن تعبأ وترحب بابن المؤسسة الأمريكية وصانع القرار فيها كارتر، بل ستبقى تنظر إلى هؤلاء نظرة عداء كما تنظر إلى نتنياهو وباراك وليفني بل أشد.

إن على المسلمين أن يوقنوا أن حبل أمريكا ليهود مقطوع لا محال وسيسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، وإن تخاذل حكام المسلمين وسهرهم على حماية كيان يهود هو من دفعهم للتجبر على المسلمين واحتلال بلادهم ومقدساتهم، لذا فقد دقت الساعة مرة أخرى لتذكر المسلمين أن عليهم العمل والسعي الدؤوب لإزالة عروش الطغاة وإقامة الخلافة الراشدة الثانية حتى يحقق الله بهم وعلى أيديهم تحرير بيت المقدس وإعلاء كلمة الله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).

حمى الدولتين !!

بسم الله الرحمن الرحيم

حمى الدولتين !!

هل يمكن للإدارة الأمريكية الحالية أن تحل قضية فلسطين بين عشية وضحاها ؟ أو حتى عام 2012م كما يقولون ؟ وماذا يمكن أن تقدم أمريكا لأهل المنطقة من حلول ؟ وهل مشروع حل الدولتين بلسم شافي لجروح المنطقة غير المضمدة أم أنه سم زعاف ؟ هل يمكن لأمريكا أن تضرب بمصالح يهود التي تربطها بهم "علاقة غير قابلة للانكسار" عرض الحائط؟ وهل تقبل أمريكا أن يراق دم يهودي واحد أو يهجر من بيته لأجل عيون الفلسطينيين "المساكين" ؟ هل يمكن لأي مشروع حلٍ أن يحقق ما يسمى بـ"السلام"؟ وهل تستطيع الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا سلخ شعوب المنطقة عن معتقدات كل منها عن الطرف الآخر وعن أرض فلسطين ؟


أسئلةٌ وغيرها الكثير تقفز إلى الذهن عند مشاهدة ارتفاع حدة الطرح الأمريكي لحل قضية فلسطين والذي وصل إلى درجة الحمى وملأ وسائل الإعلام ضجيجاً وصخباً هائلاً، فعقب خطاب أوباما في قاهرة المعز، وتأكيده على أن إدارته عازمة على حل قضية فلسطين وفق رؤيا الدولتين، تصاعدت وتيرة ردود الفعل وزاد الحراك السياسي في المنطقة، وانبرى البعض مروجاً لمشاريع أمريكا-التي لا زالت تلغ في دماء المسلمين- كأنها البلسم الشافي لهذه القضية، وأن عزمها هذه المرة ليس كسابقاته، كما من المتوقع أن يتلو هذا الخطاب خطابات "مرتقبة" من الأطراف المعنية بالصراع الدائر في المنطقة، خطابات تعزف على وتر المصالحة والرضا بالطرح الأمريكي بصورة علنية أو خفية، جدية أو مماطِلة؟.


فما هو مشروع أمريكا للمنطقة ؟ وما هي فرص نجاحه ؟ وأين تقف الأمة الإسلامية وأهل فلسطين وشعوب المنطقة من هذا الطرح؟


إن طرح أمريكا والمعروف بمشروع الدولتين هو مشروع أمريكي خالص وليس مشروعاً "وطنياً" أو "تحررياً" كما يزعم البعض ويدّعي، ولقد بات ذلك واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، فلم يعد خافياً أن هذا المشروع هو جزء من المخطط الأمريكي للمنطقة بوجه خاص وللعالم الإسلامي بشكل عام، ولم يعد خافياً كذلك أن أمريكا تُقدّم هذا الحل من منطلقاتها السياسية وأنها لا ترتكز في طرحه على المسوغات الدعائية والإعلامية المعلنة كـ "تلبية تطلعات الشعب الفلسطيني" أو "تحقيق حلمه بإقامة دولته" أو "إنهاء معاناته" أو غير ذلك مما يحاول البعض إلباسه للمشروع الأمريكي لغرض الترويج والدعاية، كما لم يعد خافياً أن تحرك أمريكا اليوم لحل هذه القضية يقف وراءه محاولة ترميم وجه أمريكا القبيح الذي علاه سمات القتل والإجرام واللاإنسانية وصرف النظر عن مخططاتها الاستعمارية وما تخلفه من مجازر بحق المسلمين في كل من العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها، كما لم يعد خافياً كذلك أن هذا الطرح يكفل لليهود –وفق النظرة الأمريكية-العيش بأمان في منطقة العالم الإسلامي ويُمَكِنَهم بصورة "مشروعة" وبإقرار أهل البلاد من أكثر من 93% من فلسطين، ويفتح العالم الإسلامي على مصراعيه أمام النفوذ والسيطرة اليهودية، بينما يُبقي هذا الطرح لأهل فلسطين على استحياء وبلا سيادة على أرض أو ماء أو هواء بعض البعض منها.



إن أمريكا تظن واهمة أن بمقدورها حسم الصراع في فلسطين، وتنسى أن فلسطين ترتبط بعقيدة أهلها لا بمصالحهم لذا فهي غير قابلة للتفاوض أو التنازل وإن زعم البعض تمثيلها ففرّط وضيّع، وتنسى أمريكا كذلك أن أهل فلسطين هم من المسلمين وأن بيت المقدس يرتبط بعقيدتهم برباط الإسراء والمعراج وأن كل شبر من فلسطين قد روي بدماء الصحابة والفاتحين والمحررين من قبل، وأن أهل فلسطين والمسلمين عموماً لن يقبلوا سوى تحريرها ولو بعد حين، وهي تظن واهمة أن بمقدورها نزع تلك العقيدة من صدور المسلمين، متناسية أن الأمة الإسلامية طوال عصورها وحتى في فترات الضعف والهزيمة لم تتخل عن عقيدتها وأن المسلمين فضلوا أن يبادوا ويقتلوا على التخلي عن بعض إيمانهم، فهل يمكن لأمريكا أن تغير عقائد هكذا قوم ؟! وهل يمكن لأمريكا أن تنزع الإيمان من قلوب امتلأت به ؟!
إن شدة الحراك السياسي في المنطقة لا يعني أن أمريكا قادرة على حل قضية فلسطين، وإن عزم هذه الإدارة على الحل لا يعني انه سيقدم أو يؤخر شيئاً في هذه القضية التي لا زالت منذ ستين عاماً أو يزيد تراوح مكانها بين شدّ وجذب، فإذا ما أدركنا حقيقة الصراع القائم بين المسلمين ويهود، وإذا ما أدركنا ارتباط هذه الأرض بعقيدة المسلمين مع ادعاء يهود الباطل أن الله أعطاهم أرض فلسطين، يمكننا الحكم بأن هذه الأرض لن تقبل القسمة على اثنين وأن الصراع سيبقى قائماً إلى أن يُحسم لصالح احد الطرفين .



إن تحركات أمريكا لا يعني قدرتها على التأثير، وإن حملة العلاقات العامة التي بدأتها الإدارة الأمريكية مع العالم الإسلامي مستغلة ورقة القضية الفلسطينية لا يعني أن هذه القضية قد قفزت إلى سلم أوليات هذه الإدارة فلا زالت الأزمة الاقتصادية وأفغانستان والعراق في رأس الهرم لديها .



إن أمريكا عجزت عن حل هذه القضية في ريعان شبابها وذروة قوتها فهل تستطيع حلها من بعد ما أصابها داء الأمم ومن بعد ما انتكست في كافة القضايا السياسية ؟!



إن قضية فلسطين ستبقى في شدّ وجذب كخض الماء في القربة لا ينتج شيأ، ولن تحل هذه القضية إلا بأن يقوم للمسلمين كيان يأخذ على عاتقه تحرير هذه الأرض وحسم الصراع فيها وإنهاء كيان يهود السرطاني وإعادتها درة في جبين الأمة .



إن تحرير فلسطين كاملة من أيدي اليهود الغاصبين هو الحل الذي لا حل سواه لهذه القضية وهو الحل الواقعي الوحيد ولا يُنقص من واقعيته أو إمكانية تحققه دعاوى بعض المثبطين أو اليائسين من أمتهم، أو سير المضبوعين والتابعين في مخططات المستعمرين، وإن الأمة الإسلامية باتت أقرب من أي وقت مضى-برغم كل العوائق التي توضع في طريقها وبرغم كيد ومكر الكافرين- إلى تحقيق بغيتها بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة والتي ستحرر فلسطين كاملة وكل شبر محتل من أرض المسلمين، وإن غداً لناظره قريب .
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا)

الحقيقة هي ما لم يقلها أوباما

الحقيقة هي ما لم يقلها أوباما

لم تجر العادة أن يقوم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بتوجيه رسالة للأمة الإسلامية من عقر دارها، ولم يكن مقبولاً في تاريخ الأمم أن يقوم فيها كبير أعدائها ومن يحتل ديارها ومن يقتل أبناءها وينهب خيراتها مقام الواعظين فيها، أو مقام المعلمين فيهم فيعلمهم دينهم ويخبرهم عن الإسلام الصحيح والمزيف وكأني به يريد أن يجسد عبارة "هذا أوباما جاءكم يعلمكم دينكم" .

ففي قاهرة المعز وفي دلالة معنوية لا تخفى على لبيب، صعد أوباما منبراً أمريكيا مدبوغاً بشعار الرئاسة الأمريكية ليس في واشنطن بل في كنانة الله في أرضه، وفي قلب بلاد المسلمين .

وبالرغم من عباراته المنمقة والمختارة بعناية فائقة وبرغم مديحه للإسلام وحضارته الذي لم يجاوز لسانه، وبرغم تأكيده على أنه يريد أن يتحدث بصراحة وصدق، إلا أن أوباما قد ذكر كل شيء سوى الحقيقة وقد عمد بشكل واضح غير خفي إلى التضليل والمغالطة والكذب في بعض الأحيان.

فأوباما صرح بأن أمريكا قد دُفعت بفعل أحداث 11-9 لحرب أفغانستان ولم تختار هي الحرب بنفسها، متناسياً أن تلك الحرب لازالت قائمة وأن أهداف أمريكا في أفغانستان باتت واضحة لكل مراقب من تأمين خطوط الغاز العابرة من أفغانستان وإقامة قواعد عسكرية لضرب أي تحرك جدي مخلص للمسلمين ومن حملات تبشيرية لحرف المسلمين عن دينهم ولعل أوباما لم يطلع على الأنباء التي سربت من داخل الجيش الأمريكي والتي كشفت عن الأعمال التبشيرية التي يمارسها الجنود الأمريكيون في أفغانستان.

وأما العراق فلم يذكر أوباما كيف زورت كلٌ من أمريكا وبريطانيا الحقائق في شأن امتلاك العراق لسلاح نووي وكيف اعتمدت على الكذب في حربها وان همّها لم يكن تخليص الشعب العراقي كما زعم من طاغية حكمها وتجبر بها فبلاد المسلمين اليوم تزخر بالطغاة الذين تمدهم أمريكا بأسباب الحياة والقوة ولكنه تجاهل عمداً بأن نفط العراق ومكانته الإستراتيجية ومخططات أمريكا للمنطقة بأسرها هو من دفعها لاحتلاله وتدميره فوق رؤوس ساكنيه.

ولم يذكر أوباما أن اليهود الذي تغني بمتانة علاقة أمريكا بهم واعتبرها غير قابلة للانكسار قد أقاموا كيانهم بل أقامته لهم كل من أمريكا وأوروبا على أراض تم اغتصابها وتشريد أهلها منها واحتلالها بالقوة، تلك القوة التي جعلها أوباما حكراً على المحتلين دون أن يأذن لمن احتلت أراضيهم باستخدامها ويطالبهم بالمقاومة السلمية، فهل أقامت أمريكا وبريطانيا كيان يهود بالمقاومة السلمية ؟! وأما تغنيه بحل الدولتين فلم يكن رأفة بأهل فلسطين بل حلاً لإشكالية قد سببت التوتر وإفشال المؤامرات والمخططات الأمريكية في المنطقة الإسلامية بأسرها فكانت فكرة حل الدولتين تحقيقاً للمصالح الأمريكية العليا وليس رأفة بأهل فلسطين مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الحل من شأنه أن يضيع جلَ جلِ فلسطين وأن يبقي لأهلها على استحياء وبلا سيادة على أرض أو ماء أو هواء بعض البعض منها.

وبالنسبة لدعوات الحوار وضرورة التلاقي عند القيم المشتركة في الإسلام والإدارة الأمريكية وبين الإسلام وبقية الحضارات، فلم يذكر أوباما من أعلن الحرب صليبية على المسلمين وقاد حملات شبيهة بالعصور الوسطى ومن جعل الإسلام هو الإرهاب ومن حكم على نهاية البشرية في ظل الرأسمالية ومن سعى لفرض قيمه البالية على بقية شعوب العالم، كما لم يذكر أوباما من أساء للقرآن ورسوله الكريم ابتداءاً من كبيرهم الذي علمهم السحر وانتهاءاً بأصغرهم من راسم للكراكاتير باسم حرية الدين والمعتقد، كما لم يذكر أوباما من يعتقل المسلمين لمجرد إطلاقهم للحاهم أو لباسهم أو حتى معالم وجوههم، كما لم يبين أوباما كيف حققت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مفهوم العدالة للأمم بل حتى للشعب الأمريكي -والتي زعم أن أمريكا تشارك فيها الإسلام- هل حققت أمريكا العدالة للأمم باحتلالها واستعبادها، أم بقتل أبنائها ونهب خيراتها أم بتجويع أكثر من ملياري إنسان أم بدعمها للفتن واختلاقها للاقتتال الداخلي والطائفي في كل من العراق وباكستان والسودان والصومال وفلسطين ؟!!

وأما المرأة وحقوقها، فحدث ولا حرج، فمن كذب وخداع أوباما وتفاخره على العالم كذبه بشأن حقوق المرأة في أمريكا وسعيه للشراكة مع كل نظام يريد أن يحقق للمرأة مكانتها كما يفهمونها، وكأني به يصدق أكذوبة الغربيين بأنهم أعطوا للمرأة حقها، فجعلوا منها سلعة تباع وتشترى واستغلوا أنوثتها ولم يقيموا وزناً لأم أو بنت أو أخت كل ذلك بدعوى الحريات الشخصية واستقلالية العيش والقرار، فلم يذكر أوباما عدد النساء اللاتي يتركهن أزواجهن يصارعن الحياة لتحصيل لقمة العيش بسبب الحياة الاجتماعية المنحلة هناك، ولم يذكر أوباما عدد النساء اللاتي يغتصبن يومياً في أمريكا، ولم يذكر عدد اللواتي أصبحن بلا مأوى بعد أن تقدم بهن العمر سوى بيوت العجزة، بينما هو يسمع ويرى كيف تعيش المرأة في بلاد المسلمين برغم وجود بعض الإساءات كون هذه البلاد تحكم بأنظمة وضعية من وضع الرأسماليين وأضرابهم، وكيف تعيش المرأة حياة لا تشبهها فيها سوى الملكة التي كلما كبرت كبرت مملكتها من الأولاد والأحفاد الذين لا همّ لهم سوى طلب ودها ورضاها.

أما مشاريع التنمية فلعل أوباما قد غفل أو تغافل بأن اقتصاد أمريكا ودولارها هما سبب البلايا والمصائب الاقتصادية التي تعم العالم، ولم يبين أوباما كيف لأمريكا أن تدعم اقتصاديات العالم وهي تعاني الأزمات تلو الأزمات بل وهي تنهب خيرات العالم وأمواله.

وخلاصة ما ذكر أن الحقيقة هي ما لم يقلها أوباما وأنه ما من قضية تناولها إلا عمد فيها للكذب والتضليل والخداع فتلكم هي السياسة في عرف الرأسماليين وذاك ديدنهم.

ولكن اللافت للنظر أن يقبل بعض المسلمين أن يخاطبهم كبير أعدائهم وأن يقبلوا أن يتحدث في قضاياهم وأن يحكم بها، لا شك أن الأمة اليوم تعاني من حالة ضعف وهوان جرأت أعداءها عليها بل وجرّأت حكامها ليسخّروا البلاد والعباد والمنابر والجامعات لخدمة الكافر المستعمر.

إن الأمة الإسلامية ظلّت عبر العصور هي من تخاطب البشرية كونها تحمل رسالة الخير لهم، وهي من توجه لهم الرسائل، وهي من تقتحم عليهم ظلمتهم فتنيرها بعدل الإسلام، فذاك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يخاطب كسرى والفرس وقيصر والروم والمقوقس والنجاشي، وذاك الرشيد يخاطب الغمام قبل البشر، وذاك المعتصم وذاك .. ، فهل يدرك المسلمون سبب هوانهم وأن بالإسلام والخلافة يعودون كراماً أعزة قادة للعالم، فيجلبون الخير للبشرية والأمم ؟!

أيهما أحق بالأمن والحماية ؟!

أيهما أحق بالأمن والحماية ؟!

تكتظ وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بأخبار القتل المستحر في المسلمين وبأخبار نكباتهم ومصائبهم، هنا في فلسطين حيث لا زال الحصار يخنق أهلنا في غزة ولا زالت وعود الإعمار الكاذبة تنتظر ثمناً سياسياً يُقدم قرباناً على مذبح الرباعية، وضحيةُ هذا الحصار أناسٌ عزلٌ مدنيون وإن لبس بعض أبنائهم زي العسكرية فهم محتلون من قبل ومن بعد، أناسٌ يفترشون الأرض ويلتحفون السماء لا يملكون لقمة يقيمون بها صلبهم أو رشفة ماء نقية يُندون بها شفاههم، ومع ذلك كله تُصر قوى الطغيان العالمية ومن سار في ركبها من حكام المنطقة على التضييق وإحكام الخناق على هؤلاء المستضعفين، وبرغم ارتفاع استغاثات اليتامى والأرامل والرضع و عمق أنين الثكالى والجرحى إلا أنها لم تلاق سوى الصم ولم تكن سوى أصوات نشاز تُعزف في سيمفونية التبعية والاستعمار، وعلى الجانب الآخر ينعم المغتصبون لأرض سُلبت من أهلها في رابعة النهار بحياة ملؤها الأمن والطمأنينة والعيش الرغيد، وتصر قوى الطغيان العالمية ودول التبع الإقليمية على إحاطة هذا الكيان بوافر الراحة والأمن ومدّه بأسباب الحياة والقوة والمال والعتاد والغاز وتتبارى دول المنطقة في التقرب لهذا الكيان –بالرغم من صلفه- زلفى، ففي دمشق عُقد مؤتمر لوزراء خارجية منظمة العالم الإسلامي لا ليقدم مبادرة أو خطوة عملية لرفع الحصار عن المستضعفين في غزة-وإن طالب ذلك بعبارات حيية- ولا ليستنفر الجيوش الرابضة أو التائهة في بيداء الخزي العربية لتتدارك تقصيرها فتحرر البلاد والعباد من رجس يهود وهي على ذلك قادرة بل يعقد هذا المؤتمر ليقدم العروض والإغراءات للغاصب المحتل بالتطبيع ودفء العلاقات والأذرع المفتوحة من دول "الإعتدال" و دول "الممانعة" على حد سواء ، فمبادرة "السلام" العربية باتت مبادرة سلام للدول القائمة في العالم الإسلامي.

فأيهما أحق بالأمن والنصرة والحماية لو كانوا يعلمون ؟! قوم سلبت أرضهم وديارهم مستضعفون أم غاصب محتل يتمادى في غيه ساعة بعد ساعة ؟!

وهناك في باكستان ، جيش عرمرم يهرع لقتل المدنيين من إخوانهم وتشرديهم من ديارهم، أكثر من مليونين ومئتي ألف شردوا، آلاف القتلى والجرحى، مدن وقرى سوّيت بالتراب، حرب طاحنة ضروس في الأحياء والأزقة، حرب شوارع لا يعلو فيها سوى أزيز الرصاص ولا يخرق صمتها سوى صوت التفجيرات والقنابل، وكل ذلك يتم تحت ذريعة حرب طالبان والحقيقة أنها حرب أهل باكستان وسوات وكل من حدثته نفسه بمد إخوانه في أفغانستان بميرة أو بعير، وفي الجانب الآخر تجثم القوات الأمريكية بأمن وأمان في باكستان وتقلع طائراتها لتقصف منطقة القبائل وأفغانستان، ويأتي مبعوثيها فتفرش لهم البسط وأيديهم تقطر دماً، وفي الجانب الثالث قوات هندية محتلة قد سَلبت جنةَ الله في أرضه "كشمير" من بين أيدي أهلها تنعم بالإستقرار الذي يوفره لها حكام باكستان من ملاحقة كل من يسعى لتحرير كشمير أو تحدثه نفسه بالإساءة إلى الصديق الحميم "الهند".

فأيهما أحق بالأمن والنصرة والحماية ؟! قوم أرادوا تطبيق شريعة ربهم وأرادوا أن يستظلوا بفيئها ولو قليلاً فطالبوا بحقهم وآخرون طالبوا بتحرير أرضهم التي رويت بدماء أجدادهم، أم محتل لا تكاد تشرق عليه شمس دون أن يوغل قصفاً وقتلاً وتشريداً وتدميراً ؟! ما لكم كيف تحكمون ؟!

وتلك الصومال من بعد أن هوى النفوذ الإستعماري الى حيث لا عودة تأتي حكومة تكتسي ثوب الإسلام والإسلام من فعالها براء وتخدع البعض بقوانين لا يعني إقرارها سوى الموافقة على "تطبيق الإسلام" تحت إرادة المستعمرين من أثيوبيين وقوى إفريقية فعن أي تطبيقٍ يتحدث هؤلاء ؟! وتتأهب الحكومة لتقف على قدميها وتستجدي الأموال من قوى الطغيان الإستعمارية لتبني جيشاً وتشتري سلاحاً لا هم له سوى قتل إخوانه الذين رفضوا وجود المستعمر ومخططاته، فيدمر القرى ويهجر الناس في حرب بالوكالة عجزت عنها قوات الأمل الأمريكية من قبل.

فأيهما أحق بالأمن والحماية ؟! أهل الصومال وأبناؤه الذين رفضوا الذل والتبعية أم يبقى المحتل في منأى عن أي أذى أو ضرر ؟!

وتلك العراق وتلك السودان وتلك اليمن وتلك ...وتلك.

إن الموازين والمقاييس اليوم قد قُلبت رأساً على عقب، فما عادت الدول والأنظمة والجيوش في بلادنا تكرّس نفسها خدمة للأمة وقضاياها كما هي حال الدول والأنظمة والجيوش في عرف البشرية بل باتت سيفاً مصلتاً على رقابنا، دول لا تملك من قرارها من قطمير وتدعي السيادة على شعوبها وأنظمة وحكومات لا همّ لها سوى السير في مخططات التبعية والذل وجيوش أسود على الأمة وفي الحروب نعامة، إنه بحق زمان يبيت الحليم فيه حيراناً، إنه بحق زمان "الرويبضات" و"التحوت"، فبأي منطق أو ذريعة يقتل المسلم أخاه ؟! وبأي حجة أو برهان يؤنس بالكافر ويرضى البعض أن يكونوا له أداة ؟!

إن مما يشطر القلب أن يرى المرء المسلمين في كافة أقطار المعمورة متقاتلين متناحرين، ومما يزيده انشطاراً أن يسير البعض في مخططات القوى الغربية الإستعمارية فيكرّسون أنفسهم وجهودهم وأموال الأمة وأموالهم لتحقيقها، ومما يدمي الفؤاد ويحير اللبيب أن رضي المسلمون بإتخاذ بعضهم بعضاً أعداءاً حتى وصف البعض خطر دولة من المسلمين لا تختلف كثيراً عن بقية الأنظمة في المنطقة في سيرها في التبعية والمخططات الإستعمارية بأنها أشد خطراً من الإحتلال وهم في الخيانة والتبعية سواء .

أيهما أحق بالأمن والنصرة والحماية ؟! أهلكم وإخوانكم وأبناء دينكم أم عدوكم وقاتلكم ومستعمركم ؟! تساؤل أو استغراب أو استنكار، يبقى برسم التفكّر والتدبر بحالنا لكل صاحب نصرة أو قوة او منعة، ويبقى يدق ناقوس الخطر لكل من رضي بإتخاذ المؤمنين دون الكافرين أعداءاً، لينشغل في صراعهم عن صراع العدو الحقيقي للأمة .

الإستكبار السياسي

الإستكبار السياسي

 

يتراوح وضع الدول على المستوى السياسي بين حالين لا ثالث لهما، إما أن تكون الدولة دولة مؤثرة يكون لها جولة وصولة بين أقرانها فتكون من أصحاب القرار في الساحة الدولية والإقليمية وإما أن تكون دولة تابعة أو تدور في فلك من هو أقوى منها تأثيراً ووزناً، وتصنيف الدول ضمن هذا المقياس قابل للإختلاف والتغير لأن عجلة الزمان دائمة الحركة لا تتوقف ترفع أقواماً وتضع آخرين، وهذه سُنّة من سنن الله في الكون والناس (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) ولكن هذه السُنّة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسُنّة آخرى ألا وهي ديمومة الحق والصلاح وظهوره ولو بعد حين وحتمية زوال الباطل مهما علا وارتفع (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وما بين هاتين السُنّتين سنين وربما عقود أو قرون يصول فيها الباطل ويجول .

 وهذه الحقائق والسُنن ليست مرتبطة بوجهة نظر خاصة وإن دلل عليها الإسلام بنصوص وأدلة، فهي حقائق وسُنن كونية يلمسها كل متدبر لحال الدول والأمم وتقلبات أحوالها، فدول تضعف وأخرى تقوى، وأمم ترتفع وأخرى تنحدر بل ودول وأمم تتلاشى وحضارات تندثر، لذا كان على كل عاقل أن يتدبر حقيقة هذه السُنن وان يقف عندها مليّاً، ليستقي منها الدروس والعبر ولئلا ينخدع بمظاهر التغييرات التي ربما كانت تغييرات آنية أو "زبدية" سرعان ما تتلاشى لئلا يكون المرء من المغرر بهم ومن الضالين المستكبرين .

ما دفعني لكتابة هذه السطور هو الوقوف على تصرفات وتصريحات قادة العالم الإسلامي بعربهم وعجمهم والهالة الكذّابة التي يحاطون بها، ففي خضم متابعة نشرات الأخبار وجولات الحكام المكوكية التي تأخذهم الى عواصم الدول الغربية من واشنطن الى لندن أو باريس يكاد المرء أن يفقد فطنته ووعيه لوهلة فيظن صدق هذه الأنباء بشكلها المعلن وديباجتها المزركشة فيظن أن لهؤلاء الحكام وزناً أو شأناً سياسياً يحسب له ألف حساب أو يُأخذ بعين الإعتبار حال صياغة الدول الكبرى للموقف الدولي، والحقيقة التي لا يخطؤها كل من انسلخ عن القشور والبهرجة الإعلامية وجيش المصفقين لهؤلاء الحكام والطبقات السياسية المحيطة بهم أن هؤلاء الحكام لا يملكون من أمرهم من قطمير، فلا بيدهم إعلان حرب أو عقد معاهدة سلام، وليس بمقدورهم حتى إتخاذ قرار بإيجادة تنمية حقيقية في بلدانهم أو إلهاء شعوبهم بمشاريع لا تسمن ولا تغني من جوع، علاوة على أنهم يهيمون في فراغ لا جاذبية فيه في المحافل الدولية تافهها وقيّمها .وما فقدان هذا الوزن والتأثير إلا بعد أن انحدرت الأمة الإسلامية عن وصفها أمة رسالة تحملها وتناضل في سبيل نشرها وبعد ان أصبحت مزقاً مشتتة على رأس كل مزقة أجير أو وكيل للقوى الغربية الإستعمارية أسموه حاكماً أو ملكاً او أميراً.

وهذا القول ليس رجماً بالغيب أو فهماً شاذاً للواقع بل هو الوصف الحقيقي للواقع السياسي لهؤلاء الحكام، لكن من دورة الزمان أن فقد البعض المقاييس والأدوات اللازمة لتشخيص الواقع، بل إن البعض أصبح يرى الإستكانة والإنبطاح للعدو قوة وسياسة ويرى في التخاذل تكتيكاً ومرحلية، ويرى في المحتل شريكاً ومخلّصاً، ويرى التعامل معه وتلقف مشاريعه مسايرة للتغيرات الدولية او إلتقاء مصالح، وقائمة المبررات هذه تستعصي على الحصر وهي في ازدياد واطراد .

لكن العاقل والمبصر لا يمكن أن يخطأ الحق والحقيقة، فمهما قيل في السير في مشاريع القوى الغربية الإستعمارية وتنفيذ أجنداتها لا يمكن ان يصف المرء هذا السلوك سوى بالتبعية، ومهما قيل عن الانبطاح والإستجداء لهذه القوى فلا يمكن ان يوصف هذا الفعل سوى بالعبودية، ومهما قيل عن السماح للقوات الأمريكية والغربية بإقامة قواعد عسكرية في بلاد المسلمين فلا يمكن أن يوصف هذا الفعل سوى بفقدان السيادة والقرار، ومهما قيل عن حكومة أنشأها المحتل وأنشأ أجهزتها الأمنية ودرب عناصرها وانفق عليها الملايين فلا يمكن أن توصف هذه الحكومة سوى بأنها صنيعته، ومهما قيل عن الخضوع لشروط البنك والصندوق الدوليين فلا يمكن وصف هذا الفعل سوى ببيع البلاد في سوق النخاسة بجعلها رهينة هؤلاء الجزّارين، ومهما قيل عن اتخاذ الحكام واشنطن ولندن قبلة لهم فلا يمكن ان يوصف هذا الفعل سوى بفقدان الإرادة والسيادة، ومهما قيل عن التفريط ببلاد المسلمين وتمليك المحتل شبراً واحداً فيها فلا يمكن أن يوصف هذا الفعل سوى بالخيانة، ومهما قيل عمن تحاور واستقبل من أساء لديننا ورسولنا فلا يمكن أن يوصف هذا الفعل سوى بالانهزامية، وغير ذلك الكثير.

فما الذي ألجأ هؤلاء الحكام والطبقات السياسية المحيطة بهم الى اللجوء الى هذه التبريرات والشعارات الكاذبة ؟! هل هو الخوف من الإعتراف أننا نعيش مرحلة هزيمة ؟! أم هو الخوف من متطلبات الخروج من هذه المرحلة ؟! أم هو الاستكبار السياسي الذي أوهم هؤلاء بأن تبعيتهم وانخراطهم في المخططات الإستعمارية عمل سياسي حقيقي فظنّوا أنهم بحق قادة وسياسيون وزعماء سيذكرهم التاريخ ؟!!!  

إن مما يعد أشد خطورة من الظروف السيئة التي نعيشها في هذا الزمان هو فقداننا لمقاييس الحق والباطل والأمانة والخيانة والصدق والكذب، فإذا فقدت الأمة هذه المقاييس كان من السهل خداعها وتضليلها والتلاعب بقضاياها .

كما أنه من الطبيعي على أمة عريقة تاريخها ممتد لألف وأربعمائة عام أن تمر بمراحل ضعف وكبوات بل إن من مميزات هذه الأمة أنها حافظت على صبغتها كأمة ولم تندثر ولم تفقد مبدأها برغم كل الظروف والعوامل التي أحاطت بها، وليس غريباً على أمة هذه حالها أن تتعلم من كبواتها وما يحل بها لتعقد العزم وتأخذ زمام أمرها من جديد فتعود كما كانت في مقدمة الدول وخير الأمم، ولكن المعيب لهذه الأمة أن تبقى ساكتة على حكام يدّعون الإستقلالية في اتخاذ القرار وهم كاذبون، ويدّعون الحرص على مصالح الأمة وهم بها يتربصون، ويزعمون السيادة والسلطان وهم عبيد وأجراء للمستعمرين، يجادلون في الحق من بعد ما تبين لهم ، يستكبرون على كل داعي للتغيير وخلاص الأمة وهم من كرّس في الأمة التبعية والذل، فهل آن الأوان للأمة أن تعجل في دورة الزمان من جديد ؟.