تصحيح مفهوم (لا يفتي قاعدٌ لمجاهد)

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح مفهوم (لا يفتي قاعدٌ لمجاهد)

كثيراً ما نسمع بهذه المقولة أو كما يحلو للبعض أن يسميها بالقاعدة ، وتُسمع هذه المقولة في سياق رد اعتراض معترضٍ أو إنكار مُنكِرٍ لتصرفٍ غير شرعي أو تصريحٍ مخالف للشرع صدر عمن يقومون بالأعمال المادية- خاصة المسلحة منها- ضد المحتل ، ويحاول البعض أن يستشهد على هذه القاعدة بقول الله عزوجل (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ(، والحقيقة أن هذه المقولة تحمل في طياتها مفاهيم مغلوطة تخالف مفاهيم الإسلام ، والتذرعُ بها قد جرّأ البعض على ارتكاب المخالفات الشرعية ، ولبيان ذلك كان لا بد من توضيح الأمور التالية :

1. إن للمفتي شروطاً كأن يكون عالماً تقياً ورعاً ولا يوجد من العلماء من جعل القيام والتلبس بالجهاد -سواء في ظل دولة الخلافة أو في ظل الظرف الراهن الذي تحياه الأمة- شرطاً من شروط المفتي أو الفقيه أو العالم ، لذا كانت دلالة هذه المقولة في لفظها تحمل إضافة شرعية لم يقل بها أحد من قبل ولا دلت النصوص الشرعية عليها وعلى لزومها للمفتي أو الفقيه أو العالم.
2. إن ميزان الصحة والخطأ في التعامل مع الفتاوى يكون بحسب قوة الدليل بإعتباره راجحاً أو مرجوحاً ،كأن يكون ناسخاً أو منسوخاً ، عاماً أو خاصاً ، مطلقاً أو مقيداً وغير ذلك من الأسس التي يحكم من خلالها وفق طريقة الإسلام في الاجتهاد على قوة أو ضعف الحكم المستنبط من الادلة الشرعية ، والمقولة آنفة الذكر تؤصّل لاعتبار مصدر الفتوى -كأن يكون المفتي مجاهداً- هو دليل رجحلان ، وبعبارة أخرى تجعل هذه المقولة الحق دائراً مع الرجال لا أن يكون الرجال تبعاً للحق حيثما كان.
3. الاستدلال بالآية القرآنية الكريمة (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ( استدلال في غير محله ولا يصلح دليلا على هذه المسألة وذلك لأن الآية الكريمة تقارن بين حالين وظرفين تلبس بهما أقوام لفعل واحد وهو الجهاد في سبيل الله حال كونه فرض كفاية ، فمنهم من خرج للجهاد وحقق فرض الكفاية ومنهم من قعد وقام بالصالحات واكتفى بقيام غيره بالفرض ، وقيل إن سبب نزول هذه الآية كان فيمن خرج لبدر ومن بقي في المدينة فحاز المجاهدون فضل بدر وكانوا أفضل درجة ممن لم يشهد هذه الغزوة ، فالله جل وعلا فضل المجاهدين على القاعدين الاصحاء بسبب قيامهم بهذا الواجب دون غيرهم وكلا وعد الله الحسنى وتكملة الآية تبين ذلك بوضوح (فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) ، ومن ثم يلاحظ على من يستدل بهذه الآية على المقولة المذكورة استخدامه لوصف القاعدين في سياق الذم والمعصية مع أن الآية تتحدث كما ذكرنا عن أقوام لم يقترفوا إثماً أو معصية بل هم لم يقوموا بفرض كفاية قام به آخرون فسقط عنهم الواجب والله سبحانه كما يظهر في الآية قد وعدهم الحسنى وهذا يتنافى مع الذم أو المعصية. وعلى ذلك يظهر خطأ الاستدلال بهذه الآية على المقولة المذكورة إذ أن الآية لا تذكر العالم أو الفقيه او المفتي ولا تقارن بين فعل الجهاد والافتاء على الاطلاق ، كما يظهر خطأ استخدام وصف القاعدين فيها في محل الذم والمعصية وكل قول غير هذا هو تحميل للنصوص ما لا تحتمل .
4. إن من يستدل بهذه المقولة يحاول أن يضفي صفة الجهل وعدم جدارة القاعد بالحكم والإفتاء وإنكار المنكر على من كان قائماً بالجهاد حتى وإن هذا الأخير جاهلاً بالأحكام الشرعية، والحقيقة أن العالم بالحكم الشرعي هو من أبصر الحق سواء أعمل به أم لا ، وليس في ذلك حض على التقصير في العمل ولكنه إثبات أن أعلم الناس هو أبصرهم بالحق سواء أكان مقصراً أم قائماً بالواجبات ، وسلوكه لا ينقص من علمه وبصيرته شيئاً ، قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن مسعود ، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدري أي الناس أعلم) قال قلت: الله ورسول أعلم. قال: (أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه) .
5. إن القائلين بهذه المقولة يعطون انفسهم صلاحية الحكم على الجهات والافراد بانهم قاعدون-بمعنى الذم- أو مجاهدون ومن مشاهدة ومتابعة احكامهم هذه نرى بانهم لا يملكون ميزاناً دقيقاً للحكم على الجهات والأفراد بانهم قاعدون أو مجاهدون بل إن الأمر لديهم كثيراً ما يخضع لرغباتهم واهوائهم وهم غالباً ما يعتبرون أنفسهم دون سواهم مجاهدين وبقية المسلمين قاعدون عن الجهاد وعما يغير حال الأمة ، وهم يرون في عملهم فحسب الخلاص لما تعيشه الأمة ، فالعاملون لنهضة الامة عبر الطريق السياسي المقتدين في ذلك بخطى الرسول صلى الله عليه وسلم هم في نظر أصحاب هذه المقولة والمروجين لها قاعدون عن الجهاد وعن التغيير مع أن هؤلاء هم من يسعون لتغيير حال الأمة وهم من يؤسسون لفرض الجهاد الحقيقي ويسعون لبناء القاعدة التي تنطلق منها جحافل المسلمين لتحرر كل أرض مغتصبة وتنشر الخير والهدى الى ربوع الدنيا . وعليه فأصحاب هذه الدعوة يمهدون لأنفسهم نهجاً قائماً على عدم قبول النقد أو النصيحة او المحاسبة أو انكار المنكر من الغير بحجة أنهم قاعدون ، ولا يخفى على أحد حجم الخطأ والضرر الذي ينطوي على هذا الفهم بل قل إن الوقوع في المعصية-بناءاً على هذا الفهم-يصبح أمراً مستساغاً بل ويُنبرى للدفاع عنه .
6. إن الله عزوجل حينما تكلم عن الجهاد وطلب النفير له أمر أن يبقى من المسلمين من يتعلم أحكام دينه ويفقهها لكي يتمكن من تعليم إخوانه حال عودتهم من الغزو وفي ذلك إشارة الى أهمية تعلم الاحكام الشرعية وعدم قبول التذرع بالخروج الى الجهاد لأجل التساهل أو ترك تعلم الأجكام الشرعية اللازمة للمسلم في حياته ، وهذا يشير أيضاً الى ان من أراد القيام بالجهاد بصورته الفردية أو الجماعية لا بد له من ان يكون على اطلاع ومعرفة بالاحكام الشرعية وبالتالي أن يتعلم هذه الاحكام ليكون جهاده على بينة وبصيرة ، يقول الحق سبحانه (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وفي ذلك بيان لضرورة تلازم العلم بالاحكام الشرعية و الجهاد بل إن الجهاد لا يصح ان يقام به الا بعد معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة به وهذا يجعل التفقه بهذا الاحكام شرطاً مسبقاً للقيام بهذا الفرض وهذا ينفي أن يخضع الفقه بالاحكام الشرعية والجهاد للمفاضلة والمقارنة .
7. إن واجب كل مسلم أن يتقيد بالحكم الشرعي في كل تصرفاته وأن يكون خاضعاً منقاداً لشرع الله قابلاً للنقد والنصيحة والتقويم لا تأخذه العزة بالأثم ولا يصر على الخطأ والمعصية.

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

نظرة في الأزمات السياسية

بسم الله الرحمن الرحيم

نظرة في الأزمات السياسية

الأزمة لغة تعني الشدة وجمعها أزمات أو إزم جاء في اللسان (الأزم الجَدْبُ والمَحْل ابن سيده الأَزْمة الشدّة والقَحْط وجمعها إِزَمٌ كبَدْرةٍ وبِدَر وأَزْمٌ كتَمْرةٍ وتَمْر ... وفي الحديث اشْتَدِّي أَزْمَة تَنْفَرِجي قال الأَزْمَة السَّنة المُجْدِبة يقال إِن الشدَّة إِذا تَتابَعت انفرجت وإِذا تَوالَتْ تَوَلَّت وفي حديث مجاهد أَن قُرَيْشاً أَصابَتْهم أَزْمةٌ شديدةٌ وكان أَبو طالب ذا عيالٍ) و (الازمات بالتاء جمع أزمة).

والأزمة في اصطلاح علماء الادارة-مع وجود اختلاف بينهم في تعريفها الدقيق- تعرف بأنها نقطة تحول مدركة في العلاقات بين فاعلين أو بين فاعلين وبيئتهم وعرفها بعضهم بأنها حالة من عدم الاستقرار تنبئ بحدوث تغيير حاسم وشيك قد تكون نواتجه غير مرغوبة بدرجة عالية أو هى عبارة عن مشكلة معقدة يبدو أن حلها أمر شبه مستحيل بالطرق التقليدية ، فأزمة الصواريخ الكوبية سابقاً كانت نقطة تحول محتملة في العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فنصب الصواريخ "الهجومية" في كوبا كان ينذر بتغيير كل من الميزان الاستراتيجي العالمي مما يقود الى تغيرات حاسمة أو يعقد المشكلة ليصبح حلها بالطرق التقليدية غير ممكن. وأزمة الرهن العقاري الاقتصادية الحالية التي شهدها الاقتصاد الامريكي وامتدت آثارها السلبية لتعم معظم دول العالم تعتبر أزمة اذ أن انفجار فقاعة الرهن العقاري كان نقطة تحول في سعر صرف الدولار واسعار النفط والذهب ولا يبدو في الأفق أية ارهاصات حقيقية تنبأ بانفراج هذه الأزمة مما يجعل حل هذه الأزمة بالطرق التقليدية (عبر ضخ الدولارات من قبل البنوك المركزية وتدخل الدول في خفض سعر الفائدة) أمراً في غاية الصعوبة وينذر بتغييرات وشيكة واضطراب في الاقتصاد العالمي . وأزمة الدرع الصاروخي اليوم بين روسيا وحلف الناتو(أمريكا) هي أحد الازمات المعاصرة كذلك . وبالمجمل يمكن النظر إلى القضايا الناجمة عن تدهور العلاقات الدولية بين الدول الفاعلة على أنها أزمات بالمعنى المشار إليه أعلاه.
كما أن الأزمات يمكن أن تكون أزمات في مجالات متعددة كالازمات البيئية كأزمة تدمير طبقة الأوزون .والأزمات يمكن أن تحصل على المستوى الفردي وعلى مستوى الجماعات والشركات والمنظومات المختلفة ويمكن أن تحصل على صعيد الدول .

والأزمة تختلف في اصطلاح علماء الإدارة عن المشكلة وإن كان كل أزمة مشكلة لكن ليس كل مشكلة أزمة فالمشكلة هي اشكالية قابلة للحل بالحلول التقليدية سواء أكانت هذه المشكلة كبيرة أم صغيرة فالمشكلة الصغيرة ربما تتعقد وتصل الى طريق مسدود فتتحول الى أزمة بينما المشكلة الكبيرة ربما تحل بأبسط الحلول وأقل التكاليف فتكون مجرد مشكلة عادية .وتختلف الأزمة والمشكلة عن الكارثة اذ تعرف الكارثة بأنها مشكلة ولكنها فى غالب الأحيان لا تكون من صنع البشر، كالزلازل والبراكين والفيضانات المدمرة والاعاصير الكاسحة.. إلخ .

وحديثنا عن الأزمات السياسية يأتي لأهمية هذه الأزمات على الصعيد الدولي والمحلي ، أما على الصعيد الدولي فالأزمات السياسية تغير من مسارات الدول في تعاملها مع القضايا المتعددة وتؤثر عليها بصورة مباشرة إما إيجاباً أو سلباً حسب موقع هذه الدولة من الأزمة ، ومن ثم نجد في كثير من الأحيان أن معظم الأزمات الدولية غير السياسية تكون رجعاً او أثراً ناتجاً عن أزمة سياسية ما ، فالأزمات الإقتصادية في غالب الأحيان تكون أثراً ورجعاً طبيعياً للأزمات السياسية وقل مثل ذلك في الأزمات السكانية والديمغرافية أو الجغرافية ، فالسياسة اليوم هي عماد الدول القائمة وهي التي تتحكم في تصرفات الدول في كل المجالات ولم يعد هناك مجال اقتصادي صرف بل هناك اقتصاد سياسي ولم تعد هناك اتفاقيات بيئية دون أن تتحكم فيها التجاذبات السياسية ولم تعد هناك قضايا سكانية أو ديمغرافية دون ان ترتبط بتوجهات الدول المؤثرة سياسياً ومخططاتها للمنطقة التي تعيش الأزمة ولم تعد هناك مشاكل أميّة أو تأخر علمي دون أن يكون ذلك سياسة مرسومة من قبل الدول الاستعمارية للمنطقة صاحبة الأزمة ، وقل مثل ذلك في مجمل الأزمات الدولية .

أما على الصعيد الداخلي فالارتباط بين السياسة الداخلية والخارجية لدول اليوم أصبح ارتباطاً وثيقاً مما يؤدي الى انعكاس الأزمات السياسية التي غالباً ما تطرأ جراء سوء أو ضعف السياسة الخارجية وتأثر الوضع الداخلي بهذه الأزمات ، وعلاوة على ذلك فإن ارتباط بلدان العالم الثالث عبر حكامها بالتبعية للدول الاستعمارية يجعل الأزمات السياسية تؤثر بصورة مباشرة على الوضع الداخلي ، خاصة أن الدول الاستعمارية قد تمادت في غيها حتى تدخلت في أدق التفاصيل لهذه الدول التي غالباً ما تفيض فيها الأزمات بصنع هؤلاء لتشكل كابوساً لأهل هذه البلدان .

وتاريخ الأزمات السياسية يعود الى بداية نشوء الدول ، أي الى بداية تكوّن المجتمعات البشرية ، حيث لا ينفك وجود صراع بين المنظومات البشرية ، سواء بشكلها اليوم أو حتى بشكلها القديم القبلي ، فوجود الصراع أمر حتمي مهما كانت اسبابه ، سواء أكانت أسباباً معيشية كالنزاعات حول مصادر الغذاء ، أو كانت اسباباً مبدئية عقدية .
أما كيفية تكوّن هذه الأزمات فربما تتكون الأزمات بتصادم طبيعي بين قوى فاعلة في قضية ما دون تخطيط مسبق وربما تكون الأزمة مختلقة لتحقيق أهداف وغايات مقصودة من اختلاق هذه الأزمة .
والدول الفاعلة تسعى لتحقيق أهدافها المتعلقة بدول أخرى-غالباً- عبر اختلاق أزمة ما لتلك الدول لتستطيع من خلال هذه الأزمة أن تَنفذ الى ما كان محظوراً عليها أو ان تُنفذ مخططاً ينتظر ظرفاً ملائماً فكانت هذه الأزمة المختلقة سبباً لتنفيذه .

ومن الأمثلة القديمة التي تدل على ذلك ما قام به الرسول الأكرم  عندما عزم على أداء مناسك العمرة في السنة السادسة للهجرة ، فهذا العمل منه  كان عملاً سياسياً مقصوداً غرضه اختلاق أزمة لقريش ليصل الرسول الأكرم الى مبتغاه من هذه الخطة السياسية وهو عقد صلح مع قريش يكون ممهداً لفتح مكة والقضاء على حلفاء متوقعين ليهود ليجهز على كيانهم في خيبر وهكذا كان ، فعقب تحرك الرسول  لأداء مناسك العمرة وقعت قريش في حيرة من أمرها وأصبح أمر أدائه  لمناسك العمرة قد يسفر عن نتائج غير مرغوب فيها وأصبح حل هذه المشكلة عسيراً على قريش فتعقدت المشكلة وأصبحت تمثل لها أزمة حقيقية فإن هي سمحت للرسول  ومن معه بأداء مناسك العمرة كان ذلك-في ذاك الظرف المخصوص- كسراً لإرادتها وحطاً من شأنها بين العرب وإن هي منعته  من أداء مناسك العمرة كان ذلك مشيناً ومهيناً لها بين قبائل العرب بل إن الأمر قد يجر الى حرب مع الرسول وصحابته لم تكن قريش قد تهيأت وتأهبت لها ، فكل الخيارات كانت تمثل مشكلة حقيقية بالنسبة لقريش وقد أعياها الأمر حتى أرسلت من ارسلت من رسلها ليهتدوا الى حلٍ مرضٍ لها ومخرج لها من هذا المأزق فكان ما كان من عرض قريش على الرسول الأكرم  صلح الحديبية وهو في الحقيقة كان مبتغى الرسول عليه السلام ولكنه عليه السلام بحنكته وقدرته السياسية قاد قريشاً الى هذا الصلح كرهاً دون ان تعلم قريش أن هذا مبتغاه عبر اختلاقه  لهذه الأزمة .

ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك ما أختلقته أمريكا من أزمة البوسنة والهرسك قبل سنين وتبعها حديثاًً أزمة كوسوفا ومنحها الاستقلال عن صربيا وما ذالك إلا لتحقيق مآربها بزرع دول موالية لها في قلب أوروبا الشرقية لتكون أداة ضغط لها على أوروبا ولكي تسلب ما تبقى لروسيا من مجالها الحيوي ، ومن الأمثلة كذلك أزمة دارفور حيث اختلقت اوروبا هذه الأزمة مستغلة سوء رعاية الدولة في السودان لأهل دارفور وكانت قد زرعت عبر التنظيمات الموالية لها بذور الحقد والطائفية بين قبائل العرب والأفارقة في دارفور وبسبب انشغال أمريكا الطرف الدولي الآخر والفاعل في السودان بمسألة فصل الجنوب عمدت أوروبا مستغلة الظرف بتفعيل هذه القضية سعياً منها لتنال قسطاً من كعكة السودان ولتعوض خسارتها السياسية في قضية فصل الجنوب ، ومن الأمثلة على ذلك الأزمة النووية الإيرانية وهذه الأزمة مثال على محاولة الدول استغلال ازمات اختلقها غيرها فالأزمة النووية الإيرانية هي في الأصل صناعة أمريكية قصدت منها أمريكا ابقاء إيران قوة عسكرية تخيف بها دول الخليج باسم الخطر الإيراني النووي لتبقى أمريكا جاثمة في المنطقة تحت مبرر حمايتها من الخطر الإيراني أو ما يسموه بالخطر الشيعي والحقيقة أن هذه الأزمة مختلقة ومصطنعة بامتياز فأمريكا هي من اختلقت هذه الأزمة وهي لن تقوم بعمل يزعزع كيان ايران ولن تسمح لأحد بأن يهدد نظام الحكم فيها لا شيء سوى لأن هذا النظام يسير في الخفاء دون العلن في ركابها، وبموازاة هذا المخطط عمدت اوروبا الى استغلال هذه الأزمة علّها أن تستطيع الحاق الضرر الحقيقي في نظام الحكم في ايران ليكون ذلك مدخلاً لها لتحقيق مآربها ومخططاتها للمنطقة ولتخفف من وطأة الضغط الأمريكي المتذرع بالخطر الايراني عن بعض عملائها في الخليج .

هذه أمثلة متعددة عن بعض الأزمات وجدير بالذكر أن مقياس الأعمال المنبثق عن وجهة النظر في الحياة لدى الدول هو ما يحكم صناعة الأزمات ، فالغرب بإعتناقه المبدأ الرأسمالي لا يرى أي ضير في إختلاق أية أزمة وعلى أي صعيد كانت فهمّه الأول هو تحقيق مصالحه وأهدافه ولا يقيم وزناً لأي شيء آخر والأمثلة السابقة عن الأزمات التي اختلقتها امريكا واوروبا تؤكد ذلك فهو لا يكترث بحياة البشر ولا يقيم لها وزناً على الإطلاق علاوة على أنه لا يفكر بتوفير الطمأنينة والسعادة للبشرية وما فعله ويفعله الآن في معظم دول أفريقيا من اختلاق الأزمات الواحدة تلو الأخرى في خضم صراع الإرادات والهمينة على المنطقة وما حصدته هذه الأزمات من ملايين الأرواح واهلكت الحرث والنسل شاهد آخر يدل على ذلك ، وقل مثل ذلك في أزمات العالم المختلفة التي غالباً ما تكون صناعة غربية بامتياز حتى إن الغرب ما عاد يأبه حتى بالأزمات البيئية اذا تضاربت مع مصالحة وموقف أمريكا من قضية الانحباس الحراري والتلوث البيئي خير شاهد على ذلك ، ويعود عدم الاكثراث هذا بحياة البشرية الى وجهة نظره الى الحياة الأ وهي النفعية ، فمقياس أعماله هي المصلحة فما حقق له هذه المصلحة كان فعلاً مستحسناً وما ضرها كان فعلاً مستقبحاً .ووجهة النظر هذه قد أفقدت الغرب ومبدأه الرأسمالي متطلبات القيادة والريادة للبشرية فأتباع هذا المبدأ يفتقدون حس المسؤولية عن الغير بل إنهم احد أهم اسباب شقاء البشر وأحد أهم عوامل دمار العالم إن لم يكونوا السبب الوحيد .

أما المسلمون فمبدؤهم جاء لخلاص البشرية مما تعانيه وجاء بالمعالجات الشاملة لكل مناحي الحياة ، معالجات يعيش معها المرء في حالة من الاستقرار والطمأنينة الحقة لذا كان مبدأ الاسلام مبدأ رحمة وهدى للبشرية ولم يأت الاسلام لدمار البشرية أو نهب خيراتها ، لذا فصناعة الأزمات لدى دولة الخلافة تكون مقيدة بهذا الخط العريض ولا تتجاوزه فلا تعمد الخلافة الى ايجاد الفتن الداخلية أو إثارة النعرات العصبية والقبلية في قطر ما بغية اضعافه وفتحه لاحقاً ولا تعمد الخلافة الى استخدام الأسلحة الفتاكة كالاسلحة النووية والكيميائية في إن لم يستخدمها العدو ، فالخلافة تسعى الى انقاذ البشرية لا الى تدميرها .

إن عالمية الخلافة حال قيامها يقتضي منها الوعي على جميع الأزمات التي يكون المسلمون طرفاً فيها ويقتضي وضع تصورات قائمة على اساس المبدأ لعلاج هذه الأزمات ، بل وتقتضي عالمية الخلافة أن تتوقع الخلافة أية أزمة قبل حدوثها وأن تضع الحلول المسبقة لمثل هذه الأزمات المتوقعة وكيفية التعامل معها لا بل تقتضي عالمية الخلافة أن ترسم الخلافة الخطط السياسية لإيجاد الأزمات السياسية للدول المحاربة لتتمكن من تنفيذ مخططاتها الرامية الى كسر الحواجز المادية بفتح البلدان ونشر الإسلام للبشرية جمعاء لتنعم البشرية في ظل الخلافة والإسلام بحياة تخلصها من ضنك العيش الذي تحياه في ظل جور الأنظمة الوضعية من رأسمالية واشتراكية .

إن على المسلمين أن يدركوا أن مصير العالم اليوم رهن تحركهم للتغيير وسعيهم لإقامة الخلافة ، فهم وحدهم دون سواهم أصحاب بديل حضاري قادر على استبدال الظلم والجور عدلاً وعلى تبديد الظلام بنور الإسلام لذا حري بخير أمة أخرجت للناس أن تغذي السير نحو إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوية لتَسعد بها وتُسعد بها البشرية جمعاء.