تصحيح مفهوم (لا يفتي قاعدٌ لمجاهد)

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح مفهوم (لا يفتي قاعدٌ لمجاهد)

كثيراً ما نسمع بهذه المقولة أو كما يحلو للبعض أن يسميها بالقاعدة ، وتُسمع هذه المقولة في سياق رد اعتراض معترضٍ أو إنكار مُنكِرٍ لتصرفٍ غير شرعي أو تصريحٍ مخالف للشرع صدر عمن يقومون بالأعمال المادية- خاصة المسلحة منها- ضد المحتل ، ويحاول البعض أن يستشهد على هذه القاعدة بقول الله عزوجل (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ(، والحقيقة أن هذه المقولة تحمل في طياتها مفاهيم مغلوطة تخالف مفاهيم الإسلام ، والتذرعُ بها قد جرّأ البعض على ارتكاب المخالفات الشرعية ، ولبيان ذلك كان لا بد من توضيح الأمور التالية :

1. إن للمفتي شروطاً كأن يكون عالماً تقياً ورعاً ولا يوجد من العلماء من جعل القيام والتلبس بالجهاد -سواء في ظل دولة الخلافة أو في ظل الظرف الراهن الذي تحياه الأمة- شرطاً من شروط المفتي أو الفقيه أو العالم ، لذا كانت دلالة هذه المقولة في لفظها تحمل إضافة شرعية لم يقل بها أحد من قبل ولا دلت النصوص الشرعية عليها وعلى لزومها للمفتي أو الفقيه أو العالم.
2. إن ميزان الصحة والخطأ في التعامل مع الفتاوى يكون بحسب قوة الدليل بإعتباره راجحاً أو مرجوحاً ،كأن يكون ناسخاً أو منسوخاً ، عاماً أو خاصاً ، مطلقاً أو مقيداً وغير ذلك من الأسس التي يحكم من خلالها وفق طريقة الإسلام في الاجتهاد على قوة أو ضعف الحكم المستنبط من الادلة الشرعية ، والمقولة آنفة الذكر تؤصّل لاعتبار مصدر الفتوى -كأن يكون المفتي مجاهداً- هو دليل رجحلان ، وبعبارة أخرى تجعل هذه المقولة الحق دائراً مع الرجال لا أن يكون الرجال تبعاً للحق حيثما كان.
3. الاستدلال بالآية القرآنية الكريمة (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ( استدلال في غير محله ولا يصلح دليلا على هذه المسألة وذلك لأن الآية الكريمة تقارن بين حالين وظرفين تلبس بهما أقوام لفعل واحد وهو الجهاد في سبيل الله حال كونه فرض كفاية ، فمنهم من خرج للجهاد وحقق فرض الكفاية ومنهم من قعد وقام بالصالحات واكتفى بقيام غيره بالفرض ، وقيل إن سبب نزول هذه الآية كان فيمن خرج لبدر ومن بقي في المدينة فحاز المجاهدون فضل بدر وكانوا أفضل درجة ممن لم يشهد هذه الغزوة ، فالله جل وعلا فضل المجاهدين على القاعدين الاصحاء بسبب قيامهم بهذا الواجب دون غيرهم وكلا وعد الله الحسنى وتكملة الآية تبين ذلك بوضوح (فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) ، ومن ثم يلاحظ على من يستدل بهذه الآية على المقولة المذكورة استخدامه لوصف القاعدين في سياق الذم والمعصية مع أن الآية تتحدث كما ذكرنا عن أقوام لم يقترفوا إثماً أو معصية بل هم لم يقوموا بفرض كفاية قام به آخرون فسقط عنهم الواجب والله سبحانه كما يظهر في الآية قد وعدهم الحسنى وهذا يتنافى مع الذم أو المعصية. وعلى ذلك يظهر خطأ الاستدلال بهذه الآية على المقولة المذكورة إذ أن الآية لا تذكر العالم أو الفقيه او المفتي ولا تقارن بين فعل الجهاد والافتاء على الاطلاق ، كما يظهر خطأ استخدام وصف القاعدين فيها في محل الذم والمعصية وكل قول غير هذا هو تحميل للنصوص ما لا تحتمل .
4. إن من يستدل بهذه المقولة يحاول أن يضفي صفة الجهل وعدم جدارة القاعد بالحكم والإفتاء وإنكار المنكر على من كان قائماً بالجهاد حتى وإن هذا الأخير جاهلاً بالأحكام الشرعية، والحقيقة أن العالم بالحكم الشرعي هو من أبصر الحق سواء أعمل به أم لا ، وليس في ذلك حض على التقصير في العمل ولكنه إثبات أن أعلم الناس هو أبصرهم بالحق سواء أكان مقصراً أم قائماً بالواجبات ، وسلوكه لا ينقص من علمه وبصيرته شيئاً ، قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن مسعود ، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدري أي الناس أعلم) قال قلت: الله ورسول أعلم. قال: (أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه) .
5. إن القائلين بهذه المقولة يعطون انفسهم صلاحية الحكم على الجهات والافراد بانهم قاعدون-بمعنى الذم- أو مجاهدون ومن مشاهدة ومتابعة احكامهم هذه نرى بانهم لا يملكون ميزاناً دقيقاً للحكم على الجهات والأفراد بانهم قاعدون أو مجاهدون بل إن الأمر لديهم كثيراً ما يخضع لرغباتهم واهوائهم وهم غالباً ما يعتبرون أنفسهم دون سواهم مجاهدين وبقية المسلمين قاعدون عن الجهاد وعما يغير حال الأمة ، وهم يرون في عملهم فحسب الخلاص لما تعيشه الأمة ، فالعاملون لنهضة الامة عبر الطريق السياسي المقتدين في ذلك بخطى الرسول صلى الله عليه وسلم هم في نظر أصحاب هذه المقولة والمروجين لها قاعدون عن الجهاد وعن التغيير مع أن هؤلاء هم من يسعون لتغيير حال الأمة وهم من يؤسسون لفرض الجهاد الحقيقي ويسعون لبناء القاعدة التي تنطلق منها جحافل المسلمين لتحرر كل أرض مغتصبة وتنشر الخير والهدى الى ربوع الدنيا . وعليه فأصحاب هذه الدعوة يمهدون لأنفسهم نهجاً قائماً على عدم قبول النقد أو النصيحة او المحاسبة أو انكار المنكر من الغير بحجة أنهم قاعدون ، ولا يخفى على أحد حجم الخطأ والضرر الذي ينطوي على هذا الفهم بل قل إن الوقوع في المعصية-بناءاً على هذا الفهم-يصبح أمراً مستساغاً بل ويُنبرى للدفاع عنه .
6. إن الله عزوجل حينما تكلم عن الجهاد وطلب النفير له أمر أن يبقى من المسلمين من يتعلم أحكام دينه ويفقهها لكي يتمكن من تعليم إخوانه حال عودتهم من الغزو وفي ذلك إشارة الى أهمية تعلم الاحكام الشرعية وعدم قبول التذرع بالخروج الى الجهاد لأجل التساهل أو ترك تعلم الأجكام الشرعية اللازمة للمسلم في حياته ، وهذا يشير أيضاً الى ان من أراد القيام بالجهاد بصورته الفردية أو الجماعية لا بد له من ان يكون على اطلاع ومعرفة بالاحكام الشرعية وبالتالي أن يتعلم هذه الاحكام ليكون جهاده على بينة وبصيرة ، يقول الحق سبحانه (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وفي ذلك بيان لضرورة تلازم العلم بالاحكام الشرعية و الجهاد بل إن الجهاد لا يصح ان يقام به الا بعد معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة به وهذا يجعل التفقه بهذا الاحكام شرطاً مسبقاً للقيام بهذا الفرض وهذا ينفي أن يخضع الفقه بالاحكام الشرعية والجهاد للمفاضلة والمقارنة .
7. إن واجب كل مسلم أن يتقيد بالحكم الشرعي في كل تصرفاته وأن يكون خاضعاً منقاداً لشرع الله قابلاً للنقد والنصيحة والتقويم لا تأخذه العزة بالأثم ولا يصر على الخطأ والمعصية.

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

ليست هناك تعليقات: