أضواءٌ على المُشكلةِ الاقتصاديةِ في الأراضي الفِلَسطينية

بسم الله الرحمن الرحيم

أضواءٌ على المُشكلةِ الاقتصاديةِ في الأراضي الفِلَسطينية

(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

لقد أصبح تحصيلُ لقمةِ العيشِ هو الشغلَ الشاغلَ لكثيرٍ من الناسِ في هذه الأيام، بل إنه لَعمرُ الحقِّ يستنزفُ وقتَهم وجُهدَهم، بل ويفني أعمارَهم؛ وفي الغالب لا يصلُ المرءُ إلى مبتغاهُ ولا يحققُّ الحدَّ الأدنى لمتطلباتِ العيش، بل يبقى منشغلاً يكافحُ أمواجاً متلاطمة، ويجابِهُ بحراً زاخراً بالجشعِ والرأسماليةِ وحيداً لا سندَ له ولا مُعين ، لاهثاً وراءَ لقمة العيشِ الكريمةِ فلا يجدُها، وإن وجدها وجدها منقوصةً لا تفي بالحاجة، وإن وفَّت وجدها ممزوجةً بالذلِّ والهوان .

إن تحصيلَ لقمةِ العيش، لم يكن في يوم من الأيام قضيةً تقف عندها أمةُ الإسلام وقوفاً مطوَّلاً، ولا كانت تمثِّلُ الهمَّ الأكبرَ للمسلمين، ولم تكن تشغلُهم عن معالي الأمورِ وسامي الأهداف؛ ويعود السببُ الرئيسُ في ذلك إلى تطبيقِ نظامِ الإسلامِ في كافة مناحي الحياة، بما فيها الجانبُ الاقتصاديّ، مما وفر الاستقرارَ والطُّمأنينةَ للمجتمع.
أيها الحضور الكرام
لإلقاء الضوء على حقيقة المشكلة الاقتصادية لا بد لنا أن ندرك أن الاسلامَ يفرقُ بين البحث في المادة الاقتصادية والثروة سواء أكانت سلعاً أم خدماتٍ من جهةِ تنميتِها أو تأمينِ ايجادِها ، ويعتبرُ هذا الشأنَ شأناً عالمياً يُأخذُ من أي مصدرٍ كان ، وهو من بابِ قول الرسول  (أنتم أعلم بامر دنياكم) ، وهذا ما يسمى بعلم الاقتصاد .
وبين توزيعِ الثروةِ على أفرادِ المجتمع ليتمكنَ كلُ فردٍ من حيازتِها والانتفاعِ بها وهو ما يمثلُ المشكلةَ الاقتصادية وهو ما تدخلَ فيه الاسلام عبر جملة من الأحكام الشرعية وهو ما يسمى بالنظام الاقتصادي؛ فالإسلامُ في سياستِه الاقتصاديةِ يهدُفُ إلى ضمانِ إشباعِ الفردِ -فرداً فرداً- لحاجاتِه الأساسيةِ إشباعاً كلّياً؛ وهي المأكلُ والملبسُ والمسكن، وتمكينِه من إشباعِ حاجاتِه الكماليةِ وَفق ظروفِ ومعاييرِ المجتمعِ الذي يعيشُ فيه، ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، وبهذه السياسةِ الربّانيةِ وعِبر جملةِ الأحكامِ الشرعيةِ التي عالجت هذا الشأن؛ حيث فرضَ الشارعُ الحكيمُ العملَ على الرجلِ القادرِ حتى يوفرَ لنفسِه الحاجاتِ الأساسيةَ، له ولمن تجبُ عليه نفقتُهُم، وفَرَضها على المولودِ له، وعلى الوارثِ إنْ لم يكنْ قادراً على العمل. أو على بيتِ المالِ إنْ لم يوجَدْ مَنْ تجبُ عليهم نفقَتُه . بهذه السياسةِ ضَمِنَ الإسلامُ لكل فردٍ بعينِه أن يشبعَ الحاجاتِ التي لا بُدّ للإنسانِ، من حيث هو إنسانٌٌ- أن يشبعَها؛ وهي المأكلُ والملبسُ والمسكن، ثم حثّ هذا الفردَ على التّمتعِ بالطيّباتِ والأخذِ من زينةِ الحياةِ الدنيا ما استطاع. وكما نلاحظ، لم يتركِ الإسلامُ الفردَ وحيداً في هذا السعيِ رهينَ كَسْبِ يَدَيْهِ إنْ حَصَّلَ مالاً فقد اقتات وعاش، وإلاّ فقد وقع فريسةً للفقرِ والعَوْزِ وسؤالِ الناس، وأصبح مُشرَّداً مُهاناً ذليلا. بل إن الإسلامَ جعل بيتَ مالِ المسلمينَ لجميعِ المسلمين؛ يُنفَقُ عليهم منه، وجعل إعالةَ العاجزِ فعلاً أو حكماً فرضاً على الدولة، وتوفيرَ الحاجاتِ للأمةِ واجباً من واجباتها، لأن عليها حقَّ الرعاية؛ روى البخاريُّ عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإمامُ الذي على الناسِ راعٍ وهو مسؤول عن رعيته)، والإسلامُ منعَ الإخلالَ بالحياةِ الاقتصادية؛ فحرَّم الرّبا وحرّم الاحتكارَ وحرّم الغِشَّ والغُبنَ، وحرّم الشركاتِ المساهمةَ والبورصاتِ، وحرّم التسعيرَ. وأوجبَ على الدولةِ أن توفِّرَ السلعَ الأساسيةَ المفقودةَ من الأسواق... وهكذا. وبذلك كلِّه ضَمِنَ الاستقرارَ في الحياةِ الاقتصادية.
وهذا كلُّه كان مجسَّداً في أرضِ الواقع، ولم يكنْ مجردَ نظرياتٍ وفلسفةً اقتصاديةً خيالية، بل إنّ تاريخَ الدولةِ الإسلاميةِ شاهِدٌ على ذلك، وما فائضُ الزكاةِ التي جابَتْ بلادَ المسلمينَ زمنَ الخليفةِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز ولم تجدْ من يستحقُّها، وما خطابُ هارونِ الرشيدِ للغَيْمةِ قائلاً: اذهبي فأَمطِري حيث شِئْتِ فخراجُكِ إليّ، إلا أمثلةٌ حيّةٌ على الحياة الاقتصاديةِ في ظل تطبيقِ الإسلام.
هذا كلُّه كان عندما كان لنا دولةٌ وإمام، هذا كلُّه كان عندما كنّا نَصوغُ الحياةَ وَفق شرعِ الله، نَعِمْنا بل وَنَعِمَ البشرُ جميعاً بحياةٍ كريمة. واليوم، وبعد أن غاضَ الإسلامُ من الوجود، وبعد أن نُحِّيَ عن التطبيقِ وعُزِلَ عن سُدَّةِ الحكم، وبعد أن عاش البشرُ في ظلِّ الرأسمالية، نَجِدُ البشرَ جميعاً أصبحوا يعيشون حياةً لا تُطاق؛ فالأزْماتُ الاقتصاديةُ التي تجوبُ العالَم، وارتباطُ نقدِ العالمِ بالدولار، وتحكُّمُ أصحابِ رؤوسِ الأموالِ بحياةِ البشرِ قد أورثهم المهالك.
أمّا حالُ بلادِنا –بلادُ المسلمين بعامّةٍ وفِلَسطينُ بخاصّة- فالمصيبةُ فيها أعظمُ، وهي تتردّى دائماً نحو الأسوأِ، والمشكلةُ الاقتصاديةُ فيها تخرُجُ عن وصفِها مشكلةً اقتصاديةً في الدرجةِ الأولى لتصبحَ مشكلةً سياسيةً ومِن ثَمَّ اقتصادية؛ ذلك لأنّ المسلمين يملِكون أعظمَ ثروةٍ في العالَمِ من النفطِ والغازِ والمعادنِ وغيرِها، ويحتلّونَ أفضلَ المواقعِ الاستراتيجيةِ في خارطةِ العالم، ويتحكّمونَ في أهمِّ المضائِقِ البحريّةِ، ومع ذلك، فَهُمْ يعيشونَ حالةً اقتصاديةً أقلُّ ما يُقالُ عنها أنها مأساوية، ويعود ذلك للأسبابِ التالية:
1.النظامُ السياسيُ المُطبَّق، الذي أبقى الدولَ القائمةَ في العالم الإسلاميِّ رهينةً للغربِ الكافرِ المستعمِر، ينهَبُ ثَرَواتِها ويسرِقُ جهودَ أبنائِها، ويسعى لجعلِ هذه البلدانِ سُوقاً لمنتَجاتِه، ويتمُّ ذلك كلُّه عِبرَ حكّامٍ نَواطيرَ نَصَّبهمُ الكافرُ المستعمِرُ على رقابِ الأمةِ لتنفيذِ سياساتِه ومخطّطاتِه.
2.طبيعةُ النظامِ الرأسماليِّ الاقتصادي المُطبَّق، الذي لا يورِثُ سوى النَّكَباتِ والمصائبِ الاقتصادية.
3.هيمنةُ البنكِ الدَّوْلِيِّ وصندوقِ النقدِ الدولي، ومنظمةِ التجارةِ العالمية على اقتصاديّاتِ دولِ العالم الثالث، وتحكُّمُها به لتبقى دولاً متخلِّفةً اقتصادياً لا تَقْوَى على الإنتاجِ والصناعة .
4.وفي فلسطين، اعتمادُ الاقتصادِ الفلسطينيِّ على فُتاتِ الدولِ المانحةِ ودولةِ يهود، وعدمُ وجودِ اقتصادٍ قائمٍ بحدِّ ذاتِه، ولا أدلَّ على ذلك مما حدثَ في أزمةِ الرواتبِ التي يعرفُها القاصي والداني منّا.

إن الاقتصادَ في فلسطينَ لا مقوماتٍ له، ولا عجبَ في ذلك؛ لأن فلسطينَ لازالت تحت الاحتلال، وأيُّ اقتصادٍ يمكن أن ينشأَ أو ينموَ تحت احتلال؟! والأوضاعُ الاقتصاديةُ والمعيشيةُ للسكانِ في الضِّفةِ والقطاعِ أحوالٌ سيئةٌ بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وهي وللأسفِ الشديدِ في تَرَدٍّ دائم، ويعود ذلك للأسبابِ المذكورةِ آنفاً ولخصوصيةِ قضيةِ فلسطين كونَها تمرُّ في مرحلةِ تصفيةٍ سياسية، مما دعا الأطرافَ الدولية، وبتآمرٍ مع حكام هذه البلاد، إلى وضعِ الناسِ في حالةٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ سيئةٍ حتى يصرِفوا أنظارَ الناسِ عمّا يُحاكُ لهم ولبلادِهِمُ المقدَّسةِ من مؤامرات، ولِيَبقى الواحدُ منهم منغمساً في تحصيلِ متطلباتِ العيشِ التي أصبحت نادرةً نُدرةَ الكِبريتِ الأحمر، ولِيَستطيعَ المتآمرونُ تضليلَ الناسِ بدعاوَى التقدمِ والرفاهيةِ والازدهارِ التي يُمَنُّون بها العوامّ، كأنْ تصبحَ فلسطينُ سنغافورة جديدةً أو هونغ كونغ أخرى.
ونظرةٌ خاطفةٌ من فترةِ الوعودِ الكاذبةِ والأمانيِّ الخدّاعةِ التي منّى بها أبناءُ الاتفاقياتِ المشؤومةِ وحكامِ السلطةِ الناسَ عند قدومهم عام ستةٍ وتسعين، تُرِي مدى الدمارِ الاقتصاديِّ الذي حلَّ بالناس، وتُري مدى ازديادِ نسبةِ الفقرِ وتسارُعِها، وتُري كيف ازدادت نِسَبُ الغلاءِ أضعافاً مضاعفة، بينما بقيت مدخولاتُ الناس ثابتةً لا بل تناقصت، وفي كثيرٍ من الأحيانِ انعدمت .







وللوقوفِ على ذلك، نعرِضُ لكم في عُجالةٍ بعضَ الإحصائيّاتِ الصادرةِ عن الجهازِ المركزيِّ للإحصاءِ الفلسطينيّ، والمركزِ الفلسطينيِّ لحقوقِ الإنسان .

أولاً : الأرقامُ القياسيةُ لأسعارِ المستهلكِ في شهر سبتمبر في السنوات 1997، 2000، 2003 و 2007 بحسب المجموعاتِ الرئيسيةِ للإنفاق، وسنةُ القياسِ في هذه الأرقامِ هي 1996=100
Major Groups of Expenditure Palestinian Territory
Sep.1997 Sep.2000 Sep.2003 Sep .2007
المواد الغذائية 106.70 120.61 129.56 155.10
التبغ 111.62 129.18 153.08 185.50
الاقمشة والملابس والاحذية 117.01 124.94 129.01 128.55
المسكن ومستلزماته 105.02 127.38 146.91 168.82
الاثاث والسلع والخدمات المنزلية 113.73 122.68 122.89 130.80
النقل والاتصالات 108.02 125.57 178.92 203.67
خدمات التعليم 105.51 114.64 134.17 138.44
الرعاية الصحية 112.70 127.16 140.24 151.89
السلع والخدمات الترفيهية 109.37 91.76 96.20 90.97
سلع وخدمات متنوعة
108.40 127.33 141.40 169.77
ثانياً : نسبةُ الفقرِ في الأراضي الفلسطينيةِ كانت في تزايدٍ مستمر، والإحصائيّاتُ التاليةُ تؤكِّدُ ذلك:
السنة الفقر % الفقر المدقع %
1996 23.6 14.3
2003 35.5 24.3
2006 50 ضفة 70 غزة

ثالثاً : نسبةُ العاطلينَ عن العملِ ازدادت بشكلٍ ملحوظ، حيث وصلت عام ألفين وستةٍ إلى أربعٍ وثلاثينَ بالمئة، وكانت أحياناً تقفِزُ لترتفعَ إلى خمسٍ وخمسينَ بالمئة.
رابعاً :معدلُ الدخلِ الفرديِّ انخفضَ ليصلَ إلى ذِروتِهِ في عامِ ألفين وستةٍ إلى أربعينَ بالمئة.
وبنظرةٍ شاملةٍ للأمورِ الأربعةِ سالفةِ الذِّكر، نستطيعُ أن ندركَ حجمَ الكارثةِ التي حلَّتْ بالمستوى المعيشيِّ للفرد؛ فلم يَقِفِ الحدُّ عند غلاءِ المعيشةِ وارتفاعِ الأسعارِ التي بلغت بالمجملِ أكثرَ من خمسين بالمئةِ، بل صاحَبَها انخفاضٌ في مستوى الدخلِ الفرديِّ حتى وصلَ إلى أربعين بالمئة، ممّا يجعلُ الفرقَ بينَ المستوى المعيشيِّ عام ستّةٍ وتسعينَ وحاليّاً يقفزُ عن تسعين بالمئة، وترافَقَ مع ذلك ازديادُ نسبةِ الفقرِ والفقرِ المُدقِعِ، وازديادُ نسبةِ العاطلينَ عن العمل وهذه الارقام بمعزل عن التغيرات الحاصلة في اختلاف سعر صرف الدولار والدينار حيث اختلف سعر صرف الدينار-عملة الادخار والتخزين- قياساً الى الشيكل ما يقارب العشرين بالمئة مما يزيد الطين بلّة ويرفع نسب الغلاء.

لقد كان هذا الواقعُ الاقتصاديُّ المريرُ حصيلةَ الاتفاقيّاتِ المشؤومةِ التي وُقِّعت بين من يزعُمُ تمثيلَ هذا الشعبِ وبين كِيانِ يهود، ولقد حاول المُوقِّعونَ ترويجَ فعلتِهِمُ الشّنيعةِ التي تخالفُ شرعَ ربِّنا وتُغضبُه، حاولوا ترويجَها بالدعايةِ الكاذبةِ مِنْ أنَّ هذه الاتفاقياتِ ستُريحُ الناسَ من همومِ مصارعةِ يهود، وسيتفرّغونَ لبناءِ حياتِهِمُ الاقتصاديةِ فيُقيموا المشاريعَ والمصانعَ فيزدهروا اقتصاديّاً ويعيشوا حياةً مِلؤُها الاستقرارُ والطُّمأنينة، ولكنْ هيهاتَ هيهاتَ أن يكونَ للمسلمينَ في مخالفةِ شرعِ ربِّهم حياةٌ، هيهاتَ هيهاتَ أن يَجْنُوا من المعصيةِ سوى الضَّنْكِ والحياةِ الشقيّةِ، فكان ما كان، وتبيّنَ لكم بالمُعاينةِ كَذِبُ هذه الدعاوَى وزورُها؛ فها أنتم تعيشون أسوأَ حياةٍ، وها هي مشاريعُكُمُ الاقتصاديةُ في تدهور، بل قد دُمِّرت كثيرٌ منها عبر السنينِ الماضيةِ، وأصبحتم لا تَلْوُونَ على شيءٍ، وأصبحتم تُلاقونَ العَنَتَ في تحصيل لقمةِ العيشِ، لا في إقامةِ المشاريعِ والمصانع، وكلُّ ذلك نتيجةٌ طبيعيّةٌ لِما وَقَعَ الناسُ فيه، ونتيجةٌ طبيعيّةٌ لِمَنْ ظنَّ أنّ الكفارَ، أعداءَنا، يريدون لنا الخيرَ ويُقدِّمون لنا المساعداتِ ليأخذوا بأيدينا نحو الحياةِ المستقِرَّة، وكيف ذلك والحقُّ جلَّ وعلا يقول: (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) ويقول (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)

إن مسؤوليةَ تغييرِ هذا الواقعِ المريرِ وعدمِ السكوتِ عن مشاريعِ الكفرِ والاستعمارِ في فلسطينَ وفي غيرِها من بلادِ المسلمينَ هي مسؤوليةُ كلِّ مسلم، وإنّ التقصيرَ في هذه المسؤوليةِ إثمٌ يترتَّبُ عليه عذابٌ من الله، فيجبُ حملُ هذه المسؤوليةِ، ويجب الوقوفُ في وجه الحكامِ، ولو أدّى ذلك بالمسلمينَ إلى دفعِ حياتِهِم ثمناً لذلك، الثمنُ الذي يتضاءلُ أمامَ الثوابِ الذي أعدَّهُ اللهُ لمن يقومُ بهذا الواجب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيدُ الشهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطلب ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله )


إنّ فلسطينَ، بل وبلادَ المسلمينَ جميعاً، حتى وإنْ مَلَكَتِ الدعائمَ الاقتصاديةَ في ظلِّ ظرفِها الراهن، ستبقى عاجزةً عن الاحتفاظِ بثروتِها الاقتصادية؛ لأنّ الاقتصادَ جزءٌ لا يتجزأُ من النظامِ السياسي، ولا يمكنُ أن يكونَ لأيَّةِ دولةٍ شأنٌ اقتصاديٌّ إن لم يَكُنْ لها وجودٌ سياسيٌّ مبدئِيٌّ يمتلك القوّةَ القادرةَ على حفظِ الثروةِ وحمايتِها وتنميتِها، ثم توزيعِها التوزيعَ العادلَ على أفرادِ الرعيّة، وهذه القوةُ بالنسبة للمسلمينَ موجودةٌ في الإسلام، فبدون عودتِهم إلى الإسلامِ عقيدةً ونظامَ حياةٍ لا يمكنُ أن تقومَ لهم قائمة، ولا يمكن أن يكونَ لهم شأنٌ في العالمِ سياسيّاً كان أو اقتصاديّاً أو عسكريّا، مع أنهم يملِكونَ الطاقاتِ البشريةَ الهائلةَ والثَّرَواتِ المعدنيّةَ والزراعيّةَ الزائدةَ عن حاجاتِهِم. فإلى العملِ الجادِّ ندعوكُم أيها المسلمونَ في فلسطينَ وغيرِها لإعادةِ الخلافةِ بالطريقةِ الشرعية، لتكونوا أهلاً للنَّصرِ الذي وَعَدَكُمُ اللهُ سبحانه وتعالى به في قولِه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) فتحيوا بإذن الله حياة ملؤها الطمأنينة والاستقرار ، نسأله سبحانه أن يعجل لنا بالفرج والخلاص إنه ولي ذلك والقادر عليه .

مجردُ الوصولِ الى الحكمِ أم إقامةُ الدينِ بالخلافة ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

مجردُ الوصولِ الى الحكمِ أم إقامةُ الدينِ بالخلافة ؟

تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ اليومَ حالةَ مخاضٍ عسيرٍ لميلادِ دولةِ الإسلام دولةِ الخلافةِ الراشدةِ الثانية ، وفي خضمِ هذا المخاض وإدراكاً منه للخطرِ الداهمِ الذي يهددُ كيانَه ، يسعى الغربُ بأساليبَ عدة ووسائلَ شتى أن يعرقلَ مسعى الأمةِ ويوهمَها أن هذا المخاضَ ليس سوى أوهامٍ وعلاماتِ ولادةٍ كاذبةٍ بل إنه ولما ضاقت به السبلُ سعى الى ذرِ الرمادِ في العيون بل ألقى عليها حجاباً ساتراً وأخرج لها في غفلةٍ من امرِها من صنعِ يديه دميةً وحاول أن يقنعَها أن هذه الدميةَ هي الوليدُ المنتظر وأن ما تشعرُ به الأمةُ الآن هو آثارُ الولادة ، فما عليها بعد ذلك سوى أن تحتضنَ هذا الوليدَ وأن ترعاه وأن تصرفَ النظرَ عمن سواه .

تلكم الدميةُ هي الحكوماتُ التي يدير دفتَها من يطلقُ الغربُ عليهم اسم "الاسلاميين المعتدلين" أو "الاسلاميين العصرانيين" ، وهي الحكوماتُ التي وصلَ الى سدةِ الحكمِ فيها حركاتٌ إسلاميةٌ عبرَ بوابةِ الانتخاباتِ الديمقراطيةِ الزائفةِ أو ما يحلو للغرب أن يسميَها باللعبةِ الديمقراطيةِ ، فهل هذه الحكوماتُ تمثلُ تجربةً حقيقيةً لوصولِ الإسلامِ الى الحكمِ بل هل يعتبرُ وصولُ هذه الحركاتُ لسدةِ الحكمِ هو وصولٌ للإسلام؟ ومتى نعتبرُ الإسلامَ وصلَ الى الحكم ؟

للإجابةِ على هذه التساؤلاتِ لا بد لنا من ان ندركَ الظرفَ الذي يحيطُ بالأمةِ الإسلاميةِ اليومَ وأن ندركَ توجهاتِ وتطلعاتِ الغربِ في هذا الشأنِ بإعتبارِه اللاعبَ الأساسيَ في حلبةِ الحكوماتِ والأنظمةِ الهزيلةِ وأن نقفَ على نظرةِ الإسلامِ لهذا الشأن لنخلص بإذن الله الى رأيٍ سديدٍ مبصرٍ بنور الكتاب والسنة ، لا أن نحكمَ على الأمورِ من خلالِ الأهواءِ والرغباتِ والثوراتِ المشاعرية .

لا يخفى على كل مبصر إعلانُ أمريكا رأسَ الكفرِ وقائدةَ طلائعِ الغربِ الصليبي الحربَ المستعرةَ الصليبيةَ من جديد على الأمةِ الإسلاميةِ ، ولقد سعت أمريكا بادئ الأمرِ الى إعلانِ الحربِ على المسلمين بصورةٍ شموليةٍ دون أن تفرقَ بين من تسميهمُ اليومَ (اصوليين ومعتدلين) غيرَ أن عاقبةَ أمرِها كان البوارُ والفشلُ والانتكاسُ المرةَ تلو الأخرى ، فعكفت مراكزُ الأبحاثِ والدراساتِ الإستراتيجيةِ الأمريكية والتي تعتبرُ المغذي الحقيقي للسياساتِ الأمريكيةِ في العالم وبالأخص دول العالم الإسلامي ، عكفت هذه المراكزُ على دراسةِ احوالِ المسلمين والحركاتِ الإسلاميةِ العاملةِ فيها وقد خلصت هذه المراكز ونخصُ بالذكر منها مؤسسة راند -وهي مؤسسةٌ بحثيةٌ لها نفوذٌ كبيرٌ و تأثيرٌ على سياسة الولايات المتحدة الامريكية الخارجية - خلصت هذه المؤسسة في تقريرٍ لها بعنوان : "الاسلامُ المدنيُ الديمقراطيُ: الشركاءُ و المواردُ و الاستراتيجيات" خلصت الى توصياتٍ هامةٍ زودت بها الإدارةَ الأمريكيةَ لتترسمَ خطاها في التعاملِ مع الحركاتِ الإسلاميةِ العاملةِ في بلاد المسلمين . حيث أوصت هذه المؤسسة بضرورة دعمِ الاسلاميين المعتدلين أو العصرانيين ليقفوا سداً منيعاً ضد الأصوليين المتطرفيين -على حد تسميتهم- كما أوصت في تقريرها المسهبِ والمفصلِ الى أساليبَ لحربِ الحركاتِ الإسلاميةِ التي تسعى لإيجادِ الخلافةِ وصنفت المسلمين الى أربعةِ أصنافٍ أصوليين وتقليديين وحداثيين وعلمانيين وارشدت الى ضرورةِ دعمِ التقليديين والعصرانيين لصد موجة التيار الإسلامي الأصولي ومما جاء في تقريرها حول المسلمين الأصوليين (يجبُ محاربتُهم واستئصالُهم والقضاءُ عليهم وأفضلُهم هو ميّتُهم لأنّهم يعادون الديمقراطية والغرب ويتمسكون بما يسمى الجهاد وبالتفسيرِ الدقيقِ للقرآن وانهم يريدون أن يعيدوا الخلافةَ الاسلاميةَ ويجب الحذرُ منهم لأنّهم لا يعارضونَ استخدامَ الوسائلِ الحديثةِ والعلمِ في تحقيقِ أهدافِهم وهم قويوا الحجّةَ و المجادلة.) انتهى النص، لذا ترى الإدارةُ الأمريكيةُ اليومَ أن لا مانعَ لديها من أن يصلَ الى سدةِ الحكمِ في البلاد العربيةِ و الإسلاميةِ حركاتٌ إسلاميةٌ عصريةُ الفهمِ معتدلةُ الرؤيا أي تفهمُ الإسلامَ على المنهجِ الأمريكي الليبرالي ، بل إن وصولَ الإسلاميين المعتدلين على -حد تسميتها ايضا- أصبح ورقةً تستخدمُها للمناوراتِ السياسيةِ ولخدمةِ أغراضِها وأهدافِها السياسيةِ علاوةً على هدفِها الرئيس وهو ضربُ المشروعِ الإسلامي المتمثلِ بإقامةِ الخلافةِ عبرَ تصويرِ الإسلامَ حالَ وصولِه الى الحكمِ بأنه سينخرطُ في التيارِ الرأسمالي الجارفِ وسيبدي الليونةَ بل والمداهنةَ للعالمِ الغربي وبالتالي سيتنازلُ عن أهدافه وغاياتِه ولن يكونَ حالُ الحكمِ في ظل الإسلامِ في المحصلةِ أحسنُ حالاً من حال الأنظمةِ العميلةِ الدكتاتوريةِ الآن مما يؤدي الى زرع بذورِ اليأسِ والإحباطِ لدى المسلمين وإدخالِ الشكِ والريبةِ على فهم المسلمين للإسلام وقدرتِه على إحداثِ التغييرِ الجذري ، وفي هذا السياق أبدت أمريكا استعدادَها للحوارِ مع حركاتٍ إسلاميةٍ معتدلة وهذا ما كان وسكتت على دخولِ حركاتٍ أخرى اللعبةَ السياسيةَ بل ودعمت ذلك .وتبنت على سبيل المثال التجربة التركية بإعتبارها مثالاً ونموذجاً يحتذى به ، مثالاً على مرونة التياراتِ الإسلاميةِ وقبولِها التعاملَ مع الغربِ والسيرِ في سياساتِه ودعت الى تكريسِ هذا النموذج في كثيرٍ من البلدانِ ومما يدللُ على ذلك أنّ وزيرةَ الخارجيةِ "كونداليزا رايس" كشفت عن اقتناع الولايات المتحدة بأهميةِ التحاورِ مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة و أنّ رايس لم تكن وحدها التي صرحت بهذا، فقد قال ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بالوزارة نفسها إن الولاياتِ المتحدة لا تخشى وصولَ تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة لتحلَ محلَ الأنظمةِ القمعيةِ العربية التي"تتسبب بتكميمها الأفواهَ في اندلاعِ أعمالِ الإرهاب، شريطةَ أن تصلَ عن طريقٍ ديمقراطي وأن تتبنى الديمقراطيةَ كوسيلةٍ للحكم.].

وأمامَ هذا السعيُ الخبيثُ والمكرُ الشيطانيُ للحيلولةِ دونَ عودةِ الإسلامِ في دولةٍ حقيقيةٍ ، دولةٍ تطبقُه تطبيقاً كاملاً غيرَ مجزأْ ولا منقوص ولكي نبصرَ هذا الواقعَ الخطيرَ بنورِ الكتابِ والسنةِ لا بدَ لنا من أن نذكرَ الأمةَ وأن نؤكدَ على الحقائقِ الشرعيةِ التالية :

1. إن الإسلامَ طرازُ عيشٍ فريدٍ وبتطبيقِه تطبيقاً كاملاً يوجدُ النموذجُ الإلهيُ الذي ارتضاه ربُ العالمين للبشر في أرضِ الواقعِ فهو غنيٌ عن ان يتطفلَ على ما سواه أو أن يفتقرَ الى غيرِه وليس الرضى بوصولِ الحركاتِ الإسلاميةِ الى سدةِ الحكم عبر بوابةِ الديمقراطية ومن خلال الرضى بأن يكونَ الإسلامُ جزءاً من نظامِ الكفر المطبقِ ليس الرضى بذلك سوى تقزيمٌ للنموذجِ الرباني ورضىً بسيادةِ الكفرِ على الإسلام ، فليس من نهجِ الاسلامِ شراكةُ المبادئِ الأخرى أو حتى الاقرارُ بها (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

2. إن تطبيقَ الإسلامِ في أرض الواقع وحملَه رسالةً الى العالم يتوقفُ على وجودِ الإسلام في الحكم أي مجسداً في في دولةِ الخلافة فهي الطريقُ الشرعيُ الوحيدُ لتطبيقِ الإسلامِ وحملِه الى العالم (الامامُ جنةٌ يقاتلُ من ورائِه ويتقى به) .

3. ليس من نهج الإسلام في الوصول الى الحكم أن يُتوسلَ اليه بتركِ تطبيقِ الإسلامِ أو بعضِ أحكامِه أو حتى أخذُه مشروطاً ولا أدلَ على ذلك من مواقفِ الرسولِ عليه السلام في سعيه لإقامةِ دولةِ الإسلام فقد رفضَ عليه السلام الوصولَ الى الحكمِ دونَ أن يجعلَ الإسلامَ محلَ التطبيق ، فرفضَ أن يصلَ هو بشخصِه وأن يتركَ الإسلامَ خارجَ سدةِ الحكم فقد عرضَ عليه كفارُ مكةَ الحكمَ والسيادةَ والسلطانَ والجاه دونَ أن يقيمَ فيهم حكمَ الله ودونَ أن يقيمَ فيهم شرعَه بل أن يستلمَ الحكمَ بشخصِه فحسب لكنه عليه السلام رفضَ ذلك رفضاً كلياً فكانَ مما عرضوا عليه قولهُم (فإن كنتَ إنما بك الرئاسةُ عقدنا ألويتَنا لك فكنتَ رأسنا مابقيت) فما كان من رسولِ الله إلا أن قرأَ عليهم آياتٌ من سورةِ فصلت من بدايتها الى قولِه سبحانه (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) في ردٍ صارخٍ منه عليه السلام فإما أن يصلَ الإسلامُ الى الحكمِ وأن تستجيبوا استجابةً كاملةً مستسلمةً لأمرِ الله وإما أن يصيبَكم ما اصابَ من كان قبلَكم بل إن عليه السلام رفض أن يصلَ الى الحكم مُطَبِقاً للشرع بشرطٍ يخالفُ المبدأ ولو في جزئيةٍ فقد عرضَ عليه بنو عامر بن صعصعة النصرةَ شرطَ أن يكونَ لهم الأمرُ من بعده ، وبرغم الحاجةِ الماسةِ للنصرة إلا أنه عليه السلام رفضَ التنازلَ ولو في جزئيةٍ واحدةٍ فردَ عليهم قائلاً (الأمرُ لله يضعه حيث يشاء)

4. إن وجودَ الإسلامِ في الحكمِ هو حكمٌ شرعيٌ قطعيٌ لا يقبلُ الاجتهادَ أو التأويلَ أو الخلافَ وهذا يقتضي بناءَ القاعدةِ الشعبيةِ بتوحيدِ الآراءِ والافكارِ والاحكامِ من أجل توحيدِ هدفِ الأمة نحوَ إستئنافِ الحياةِ الإسلامية من أجل تطبيق الإسلام تطبيقاً إنقلابياً شاملاً فليس من طريقةِ الإسلام التدرجُ بتطبيقِ أحكامِه (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) .
5. إن المفاصلةَ بين الحقِ والباطلِ وعدم المهادنة والمواربة والمجاملة هي نهج الاسلام الذي لا يقبل التغير والتبدل (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) .

6. إن الطريقَ العمليَة والشرعيَة للوصولِ الى الحكم هي طريقُ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا طريقَ غيرها ولا يكون الوصول الى الحكم عبر بوابة الانتخابات الديمقراطية الزائفة (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) .

7. إن التوسلَ للأحكامِ الشرعيةِ بالمصلحةِ( التي تعتبرُ آفةُ العصر) لا يمتُ للإسلام بصلة بل لقد أصبحَ هذا النهجُ ديدنَ من يريدُ تحريفَ أحكامِ الإسلامِ وليِ أعناقِ النصوصِ لتوافقَ الواقعَ باسمِ المصلحة .

أيها المسلمون : بالعملِ وفقَ الطريقِ الشرعيةِ عبر التأسي بنهج الرسول عليه السلام يكونُ الوصولُ الى الخلافة وبالخلافةِ وحدَها يصلث الإسلامُ الى الحكمِ وبالخلافةِ وحدَها يُطبقُ الشرعُ كاملاً غير منقوصٍ ولا مجزأ ، وبالخلافةِ وحدَها تقامُ دارُ العدلِ وتُحمى الثغورُ وتصانُ الأعراض ، وبالخلافة وحدَها يوجدُ النموذجُ الإسلاميُ في أرضِ الواقعِ ، وبالخلافةِ وحدَها يكونُ النصرُ والتمكينُ ، فلا يغرنَّكم تضليلُ المضللينُ ولا خدعُ المخادعين ولا كيدُ الكافرين واعملوا بجدٍ الى يومٍ يقامُ فيه الدينُ عبرَ اقامةِ الخلافةِ وكونوا من أهلِها وبُناتِها كي يسجلُ في صفحاتِكم بماءٍ من ذهب أنكم -بإذن الله- أقمتم الخلافةَ كما أقامَها من قبلِكم خيرُ البشر فتفوزروا بإذن الله بعز الدنيا وثوابِ الآخرة .(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

اللهم أجعل خلاصنا بالخلافة قريبا ،واجعلنا اللهم من بناتها ومن لبناتها ،اللهم انفعنا بما علمتنا
ولا تمتنا الا وانت راض عنا اللهم آمين .

الإعلام والخلافة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإعلام والخلافة

لقد باتت الخلافة محور حياة الأمة ومركز تنبهها ومحط انظارها وأملها في الخلاص من كل خطب ، ولا غرو في ذلك ، فبالخلافة وحدها تقام دار العدل وبالخلافة وحدها يقام الدين وبالخلافة وحدها يذاد عن حياض المسلمين وبالخلافة وحدها تحرر بلاد المسلمين وبالخلافة وحدها تحل قضايا المسلمين بشتى ضروبها فهي رأس الأمر لقضايا الأمة في هذا الزمان وهي قضية القضايا .

ولما كانت الخلافة بهذه المكانة كان حرياً بالأمة أن تبقى منشغلة بما يحقق هذه الغاية ويمهد السبيل للوصول لها وكان حرياً بها ان تبقى تمحص كل فكر وارد أو شارد في هذا الشأن حتى تأخذ بأحسنه وتنفي خبيثه فتسير في طريق عزها ونهضتها فتصل الى مبتغاها وتحقق نهضتها .

غير أن عدو الأمة يبقى يتربص بها الدوائر ويحيك لها المؤامرات والمكائد ليوقع الأمة فريسة أفكاره ومخططاته ليحرفها عن مبتغاها ويصدها عن سبيل عزتها فيأخذ بنفث سمومه في أرجائها من ديمقراطية وحريات و حقوق إنسان واستقلال واحترام سيادة القطر وحقوق الأطفال والعولمة واقتصاد السوق وغيرها وكل ذلك كي تبقى الأمة رهينة ما يمليه عليها من أفكار مضللة مخالفة لشرعها وعقيدتها ولكي تبقى الأمة بعيدة عن الفكر الحق الذي يأخذ بيدها نحو النهضة ويقودها الى درب العزة والكرامة .

وفي خضم ما تعيشه الأمة من محاولتها تلمس سبيل نهضتها ومن سعي الكفار الدائم لصدها عن ذلك تأتي أهمية وسائل الإعلام باعتبارها لاعباً رئيسا في تكوين وعي الناس والرأي العام فيهم ولأهميتها لا بل ولخطورتها حرص الكافر المستعمر على ان يبقى ظله جاثماً عليها ، فبدل ان يكون للإعلام دوراً فاعلاً ايجابيا نزيها وفق ما تمليه عليه معاير الإعلام المعلنة وبدل أن يكون للإعلام دوراً مؤثراً في نهضة الامة وفق ما يمليه الشرع على الإعلاميين والعاملين في وسائل الإعلام باعتبارهم جزءا مهماً من امتهم ، نرى -بكل آسف ومرارة- ان الإعلام في هذا الزمان بات سيفاً مصلتاً على رقاب الامة وبات جسراً لتحقيق أجندات الدول الكرتونية في العالم الإسلامي وبالتالي تحقيق اجندات الكافر المستعمر باعتبار هذه الدول ليست سوى دمية يحركها الكافر حيث يشاء ،
• فوسائل الإعلام في عصرنا الراهن ، تثير القضايا التي تخدم الكافر المستعمر وتكثف من طرحها لتقرع بها آذان الناس صباح مساء فتسهم في تشكيل وعي الناس وفق مقاسات الكفار مثل ما يزعم حول قضايا المرأة وما أكثرها حتى صارت من عجائب الدنيا السبع في الإعلام وذاكم التناقض الحاصل في التغطية الإعلامية المقلوبة لقضيتين متشابهتين بين ما يجري في لبنان وقضية نهر البارد وبين ما يجري في باكستان وقضية المسجد الأحمر،وما ذاك إلا مثالاً على تحيز الاعلام لأجندات خارجية .
• وفي سائل الاعلام نجد قضية الخلافة غائبة من قاموسها الإعلامي ولا تكاد تطرق أسماع الناس بما يمت لهذه القضية المصيرية بذي شأن بل إنها –وللأسف- حينما تتناولها نادراً تتناولها بشكل منفر وسلبي علماً بأن الخلافة قد ملأت أرجاء المعمورة قروناً طويلة نوراً اضاء ظلمات الكون الفسيح وليست الأمة الإسلامية الممتدة الأطراف عبر القارات إلا شاهداً على عظم هذه الدولة ومكانتها وليست قضية الخلافة سوى قضية الأمة وفكرها بل إن تاريخ الأمة الإسلامية لا يعدو كونه تاريخ الخلافة فالأمة لم تعش دون خلافة إلاّ هنيهة من تاريخها ، فما سبب هذا التهميش لقضية بهذا الوزن ؟ وما سبب الحصار الإعلامي المضروب على قضية الخلافة ودعاتها ، حتى وصل الحال بوسائل الإعلام أن تتخطى أحداثاً جساماً تتعلق بقضية الخلافة ودعاتها بينما تتناول قضايا لا أقول اقل شأناً منها بل لا شأن لها وتفرد لها الساعات الطوال ، فأيهما أحق يا أهل الإعلام قضية أمتكم المصيرية أم توافه الأمور ؟ أيهما أحق يا أهل الإعلام بالتغطية أن يعتقل ألف أو يزيد من أمتكم لسعيهم الدؤوب لإنقاذ أمتهم عبر إقامة الخلافة أم اعتقال شخص يدعو لحقوق الانسان بزعمه وهو في الحقيقة لا يعدو كونه عميلا سياسياً للكافر المستعمر ؟ أيهما أحق شباب في كل بلاد المسلمين وفي كل العالم يخوضون كفاحاً وصراعاً مريراً مع الغرب والحكام عشرات السنين ويتعرضون لكل صنوف الأذى والاضطهاد أم داعية للديمقراطية في بلادنا يجلس على مكتب في باريس أو لندن أو واشنطن ؟ أيهما أحق حزب مبدئي وحيد يتصدى لقيادة امته عبر العالم كله بشبابه يمشون بين الناس أم إعلان من جماعة لا تعرف على الانترنت ؟


إن الخلافة ودعوتها وحملتها هم أمل الأمة وسبب عودتها عزيزة منيعة، لذا يسعى الكافر المستعمر ليميلي على الإعلام أجندات تحول بين الأمة وقضيتها المصيرية وليحول بين الأمة ورواد نهضتها ، لذا فلا زال الإعلام يقصي قضية الخلافة ودعاتها من على أبوابه ويظهر ذلك جلياً في إقصاء الخلافة ودعوتها عن أي ذكر على الرغم من أن دعوة الخلافة -وبحمد الله- لها وجود عالمي تجاوز الأوطان والأقطار ووجود دعوة الخلافة ماثل للعيان في جاكارتا في أقاصي الشرق التي يعقد فيها يوم غدٍ أكبر مؤتمر عالمي حاشد للخلافة ، لم يعقد له مثيل منذ هدم الخلافة ، الى الرباط في أقاصي الغرب من بلاد المسلمين وحتى أصبح لها وجود قوي ومؤثر في الجاليات الإسلامية في عقر دار الغرب وبين أظهر دول الشر في الشرق والغرب من موسكو الى واشنطن مرورا بلندن وبرلين ، فعلى الرغم من هذا الوجود العالمي لدعوة الخلافة وعلى الرغم من الفعاليات والمؤتمرات والممثلين الإعلاميين ووجود المكاتب الإعلامية لهذه الدعوة إلا أنها لازالت تعيش طوقاً إعلامياً مريراً ، وتلكم فاجعة أنديجان مثالاً كيف تعامل معها الإعلام على استحياء تلك الفاجعة التي اصابت الالاف من حملة دعوة الخلافة ومن التف حولها من جماهير الأمة في اوزبكستان ، وتلك حادثة وفاة كل من الشيخ تقي الدين النبهاني والأمير عبد القديم زلوم اللذان يعدان من مجددي دين هذه الأمة في عصرنا الراهن وكيف أغفل الإعلام وفاتهما ولم يمر عليه حتى مرور الكرام بينما يتوقف الإعلام ساعات وساعات على خبر وفاة عميل سياسي هنا أو هناك أو قل على ممثلة أو راقصة ماجنة.




إن قضية الخلافة وإن غيبت عبر وسائل الإعلام لكنها حاضرة في قلوب الأمة وها هي يوماً بعد يوم تزداد التفافاً حول العاملين لها وهذا الجمع المبارك خير شاهد على ذلك ، ولن يطول الزمان بالامة-بإذن الله-حتى تأخذ زمام أمرها فتعيد رمز عزتها وكرامتها ، لذا وإزاء هذه الحقيقة التي نراها رأي العين فإننا نتوجه لأهل الإعلام ولمن كان له تأثير عليهم نتوجه لهم مخاطبين ، يا أهل الإعلام :
إنكم اليوم على محك خطير سيسجل في صفحاتكم فإما أن تملؤها بالسواد وإما أن تكللوها بناصع الأعمال فإما ان تستمروا في حصاركم الإعلامي على قضية الخلافة ودعاتها و أما أن تنحازوا لجانب أمتكم ولقضيتها فأنتم من أبنائها فمصابها مصابكم وقضيتها قضيتكم وأنتم قد مكنكم الله من منابر الإعلام فسخروها لخدمة قضية أمتكم واجعلوا قضية الخلافة قضية نقاش وجدال، الحجة بالحجة والدليل الشرعي بالدليل الشرعي، حتى ينجلي أمر الخلافة لكل مسلم ولا أقل من أن توظفوا أقلامكم وعدسات كاميراتكم لتغطية تطورات قضية الخلافة ونشاطات وفعاليات دعاتها ، فالخلافة ليست قضية حزب معين أو جماعة ما بل هي –والله- قضية الأمة بكافة شرائحها ، فأين حملكم لمسؤولية أمتكم ؟ أين حملكم لهّمها ؟ لذا فإننا نستثير فيكم إسلامكم ونستصرخ فيكم إيمانكم فكونوا ممن يذود عن هذا الدين وأهله ولا تكونوا عوناً للكافر المستعمر في حربه المستعرة على أمتكم ، كونوا كنُعيم بن مسعود في ذوده عن هذا الدين ولا تكونوا كالنضر بن الحارث في حربه للإسلام وفي ترويجه للدعايات المضللة ضده حتى أنزل الله في حقه (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)

فيا أهل الإعلام كونوا أنصاراً لقضية أمتكم فبها بإذن الله تحيون وتعزون .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

منكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان

بسم الله الرحمن الرحيم

(منكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان)

تنتاب الأمة الإسلامية اليوم حالة من الضعف الفكري والتراجع الفقهي مما أدى بها الى انتكاسة في طريقة التفكير وفي كيفية التعاطي مع القضايا والحوادث المستجدة ، وفي ثنايا هذه الواقع يجد المغرضون بأنواعهم المتعددة ( سيئو النية والجهال المنقادون وراء رؤوس شياطنية والمتغربنون الذين يرون في الغرب ما يسد أفقهم ويملأ قلبهم وعقلهم إجلالاً وإكباراً له ولحضارته ) في هذه الثنايا يجد هؤلاء التربة خصبة لتضليل الأمة وتحريف دينها وثنيها عن جادة الحق والصواب ، وذلك بتأوليهم للأحكام وإلباسهم الباطل لبوس الحق تارةً ، كترويجهم للديمقراطية الكافرة باسم الشورى ، وكتحليل الحرام باسم المصلحة تارة كإباحتهم للربا لأجل شراء المسكن وتغييرهم للأحكام ومناقضتهم لنصوص التنزيل بزعم تغير الاحكام بتغير الزمان والمكان تارة أخرى .
لذا-وذوداً عن هذا الدين الحنيف وسعياً لتبصير المسلمين بأمر دينهم لئلا يقبلوا الغث في ثنايا السمين ولئلا ينخدعوا بخدع المراوغين والمنافقين- رأينا أن نقف عند قاعدة يعتمد عليها هؤلاء في تضليل الأمة وحرفها عن أحكام دينها ،هذه القاعدة المسماة بـ(لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان).

إن جذور هذه القاعدة تعود الى اعتمادها كقاعدة شرعية في المجلة العدلية في آواخر الدولة العثمانية وقد أستند القائلون بها الى آراء مغلوطة منسوبة الى علماء من سلف هذه الأمة وأبرزهم ابن القيم والقرافي وابن عابدين ، ويعبر عند علماء السلف عن هذه القاعدة بتسمية أخرى وهي (تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان) وقد أفرد ابن القيم رحمه الله في كتابه (أعلام الموقعين) فصلاً بعنوان(تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد) ، غير أن ما يذهب إليه المعاصرون لا يمت بصلة لما قاله سلف هذه الأمة بل كان قولهم مغالطات إعتمدت على تشابه الألفاظ والعبارات برغم تغاير المعنى والمدلول . وبيان ذلك يتجلى في أقوال كلٍ من السلف والمعاصرين ، وسنورده في حينه .

أما أدلة القائلين بتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان ، فأهمها ما يلي :

1. اجتهادات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في رفع القطع عام المجاعة وعدم إعطاء المؤلفة قلوبهم وعدم تقسيم سواد العراق على المقاتلين .
2. تغيير الشافعي لكثير من آرائه ، حتى أصبح له في كل مسألة تقريبا رأيان ، واحد قال به في العراق وثانٍ قاله في مصر .
3. أحادبث يستدلون بها على القاعدة منها حديث إدخار لحوم الأضاحي وتغير حكمها .
4. استدلالهم بقوله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (الأنفال: 65)، ثم قال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين).

هذه هي أهم ادلة القائلين بهذه القاعدة وبالتدقيق فيها يتبين أن لا حجة فيها جميعاً على تغير الحكم بتغير الزمان أو المكان وبيان ذلك ببعض من التفصيل :

1. إن هذا التأصيل يؤسس لإعتماد أدلة أخرى في إثبات الأحكام الشرعية إذ جواز تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان يجعل المرء مضطراً للبحث عن أدلة مستحدثة ليغطي شرعية الاحكام المستجدة وهذا يعني ابتكار أدلة جديدة ، وشرعية هذه الأدلة يحتاج الى نصوص وحجج قطعية وهذا ما لم يتوفر في كل الأدلة التي ساقها القائلون بهذه القاعدة .

2. إن اجتهادات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم تخرج عن كونها فهماً شرعياً لأحكام شرعية ، فرفعه لحد القطع في زمن المجاعة ليس تغييراً لحكم السرقة ولا حتى لعقوبتها بل هو حكم مستثنى من عموم أدلة القطع وقد انعقد اجماع الصحابة على ذلك ، وأما عدم إعطائه الزكاة للمؤلفة قلوبهم ، فهذا يتضح من فهم واقع المؤلفة قلوبهم من أن الدولة تعطيهم لتستقوي بهم في حالة ضعفها فإذا زالت حالة الضعف هذه زال الوصف عنهم . واما تقسيمه لسواد العراق فليس تغييراً لحكم شرعي بل اجتهاد في النص وانطباقه على الواقع وفهماً للآية القرآنية (ما أفاء الله على رسوله فلله والرسول....والذين جاءوا من بعدهم).

3. أما تغيير الشافعي لإجتهاداته فعلاوة على أن قول الصحابي ليس بدليل ومن باب أولى أن قول الشافعي ليس بدليل فإن ما فعله رضي الله عنه لم يكن سوى تغيير لآرائه لانه قد ثبت له صحة أحاديث لم تصله في العراق وتبين له صحتها في مصر وليس لعامل الزمان أو المكان علاقة بالموضوع .

4. إدخار لحوم الأضاخي لم يتغير حكمه بل هو معللٌ لأجل الدافة فلما زالت العلة زال الحكم وإذا عادت العلة عاد الحكم وليس هناك من رابط للحكم بالزمان أو المكان لا من قريب ولا من بعيد .

5. وأما استدلالهم بالآية القرآنية (الآن خفف الله عليكم) فليس في النص تغيير ولا تبديل بل فيه حكمان لحالتين مختلفتين في مبادئة الكفار بالقتال أولاهما حالة نشوء الدولة والحاجة لتثبيت أركانها وتوطيد بنيانها ففرض الله عليهم القتال بنسبة 10:1 والثانية بعد استتباب الدولة فرض عليهم القتال بنسبة 2:1 وليس لعامل الزمن الصرف أية علاقة بتغير هذا الحكم.
وأما استدلالهم بأقوال ابن القيم والقرافي وابن عابدين ، فلا يتسع المقام لذكر أقوال هؤلاء العلماء الأجلاء لنبين الفرية التي يفتري بها أدعياء العلم في هذا الزمان على علماء الأمة غير أننا نقول في هذه العجالة أن رأي ابن القيم رحمه الله لم يتطرق لتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان بل كان حديثه منصباً برغم استعماله لعبارات مشابهة لقول هؤلاء كان قوله متعلقاً بضرورة أن يفهم المفتي تغير الواقع الذي ينزل الحكم عليه وهو المعروف لدى الفقهاء باسم تغير مناط الحكم لذا عنون بابه بالقول(تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد) فحديثه عن تغير الفتوى اذا تغير واقع مناطها ، فالعنب إذا تخمر حرم واذا تحول الى خل ابيح ولا يعارض هذا القول فقيه . وأما اقوال القرافي وابن عابدين فلم يذهبا بعيداً عما ذهب إليه ابن القيم في أن الأحكام المتعلقة بأقوال الناس وألفاظهم تختلف إذا اختلفت معاني هذه الأقوال والألفاظ. فقد تكون الألفاظ واحدةً، ولكن معناها عند قوم يختلف عن معناها عند غيرهم، وقد يكون للَّفظ معنىً في اللغة، ومعنىً آخر في الاصطلاح، أو في العرف الاستعمالي. وقد يعتمد المعنى على قرائن الأحوال التي قد تختلف دلالاتها بين قوم وغيرهم، وقد يعتمد على النيَّة. فإذ اختلفت معاني الألفاظ والجُمل، فإن الأحكام التي كانت هذه المعاني مناطاً لها تختلف تبعاً لذلك. وهذا يدخل في ألفاظ النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذور، والأيْمان، وسائر العقود، وفي الأفعال التي تصبح ملازمة عند بعض الناس لأفعالٍ غيرها، أو ذات دلالة على مقاصد أو معانٍ معينة. كدلالة لباس معين على الزفاف، وغيره على الحداد، وآخر على أن لابسه طبيب، أو جندي، أو شرطي... فعلى سبيل المثال، اللباس الذي يختص به الطبيب هو في الأصل جائز، وجائز لأيٍ كان. ولما ارتبط هذا اللباس بمعنىً معين وهو أن لابسه طبيب، صار إذا لبسه غير الطبيب، ليوحي للناس أنه طبيب، حراماً، وليس ذلك من باب تحريم المباح، وإنما من باب تحريم الغش والخديعة، وهو حكم عام وثابت ولا صلة للأمر بزمان أو مكان.

ثم إن القول بجواز تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان يعارض أساسيات في هذا الدين منها
• نسبة الأحكام للشارع ، إذ الوحي قد انقطع وتغير الاحكام يعني تبدلها واستحداث احكام جديدة مما يقود الى جعل العقل هو الحكم بدل الشرع، وتعريف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع وليس خطاب العقل أو المصلحة (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).
• اكتمال الدين ، والتغير بعد الاكتمال اتهام للشريعة بالنقص ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5) وقال سبحانه (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)
• قول الرسول عليه السلام ، الحلال بين والحرام بين ، ومع تغير الاحكام لا يصبح الحلال ولا الحرام بيناً "الحلال ما احل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه " والتغير والتبدل يفقد الحلال والحرام وضوحهما .
• أن الحكم الشرعي قد عالج الانسان بوصفه انساناً ولم يعالج مشاكله باعتبار فرديته والظروف المحيطة به من زمان أو مكان(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) .


إن القول بجواز تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان يعتبر تأصيلاً لمذهب جديد لا بل لدين جديد يتخذ من العقل والمصالح دليلاً يعارض به نصوص التنزيل فيلغيها ويبطل مدلولها واسمعوا ان شئتم قول أحد المعاصرين المروجين لهذه القاعدة حيث يقول ( إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير ولم تكن إلا حلولا مؤقتة ، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم ، فليست بالضرورة ملزمة لنا ، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغير ، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه) فجعل مخالفة النصوص وتغييرها ليس أمراً جائزاً فحسب بل هو أمرٌ واجب ؟!

إن دعاة تغيير الأحكام وتبديلها لا يخرجون عن وصف المحرفين الضالين المضلين ، بل إن عملهم هذا يأتي في ظل حملة أمريكية مسعورة لتغيير أحكام هذا الدين وحرفه باسم التجديد وتغيير الخطاب الديني والعصرنة ومرونة الشريعة وصلاحيتها للتشكل مع كل واقع ، مما يلقي بظلال الشك والريبة بل قل التهمة لهؤلاء من أنهم أصبحوا اداة طيعةً بيد طاغوت هذا الزمان ، لذا فالحذر الحذر من هؤلاء ودعوتهم ولا يغرنكم حلاوة لسانهم ولا طول لحاهم وتمسكوا بأحكام دينكم وكونوا حراساً أمناء أتقياء ، واسعوا الى إقامة صرح الخلافة التي توجد هذا الدين مجسداً في أرض الواقع لتفوزا بالدارين .

واقع حرية الرأي والتعبير لدى وسائل الإعلام في عصرنا الراهن

الإعلام في الميزان

واقع حرية الرأي والتعبير لدى وسائل الإعلام في عصرنا الراهن

بعد أن عاشت الأمة الإسلامية حالة من الاحتكار الحكومي لوسائل الإعلام ، وبعد أن أصبح الإعلام الحكومي فارغ المحتوى بلا جدوى في التأثير على فكر الناس وارائهم ، أطلت علينا الفضائيات بثوبها المخادع الذي يزيغ البصر فيظنها البسيط أنها تجسد ما أسموه التعددية والحيادية وما هي في حقيقتها سوى إلتفاف على وعي الأمة ومحاولة مواكبة تغير حالها لتجد السبيل والمنفذ للتأثير على عقول الناس وآرائهم ، ومن ضمن حملة التضليل التي تبنتها وسائل الإعلام لتروج بضاعتها تبني شعار " حرية الرأي والتعبير والرأي والرأي الآخر " وهو شعار يريد منه مطلقوه ومروجوه أن يجسدوا بزعمهم حرية الرأي والتعبير في الآراء الفكرية والسياسية وأن يروجوا لمفهوم التعددية وقبول الآخر .

وقبل الحديث عن أهداف هذا الطرح لا بد لنا من بيان موقف الإسلام مما أسموه حرية الرأي والتعبير. إن حرية الرأي والتعبير هي جزء من الحريات الاربع التي انبثقت عن المبدأ الرأسمالي ، فهذا المفهوم هو مفهوم غربي منبعه عقيدة فصل الدين عن الحياة وهو ينص على جواز أن يعبر الشخص عن رأيه في كل القضايا دون أية قيود سواء مست هذه القضايا معتقدات الآخرين ام عاداتهم أم تقاليدهم فله الحق في التعبير عن رأيه مهما كان وكيفما شاء بلا قيود ، وهذا المفهوم يتصادم مع الإسلام الذي يقيد المسلم بآراء لا بد أن يكون لها سند شرعي فلا يحل لمسلم أن يحمل آراءاً تناقض الاسلام او غير مستمدة من نصوصه ، فلا يحل له مثلاً ان يرى في الاجهاض مخرجا للمرأة الحامل التي لا تريد الانجاب ولا ان يحترم هذا الرأي ولا يحل له أن يعتبر قول الزور او الالحاد والشرك آراءاً تحترم ولا تنتقد ، فالمسلم مسؤول عن كل كلمة يتلفظها (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) و هو ملزم بالشرع وليس له خيار (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ، فحرية التعبير هذه لا تمت للإسلام بصلة .

ونظرة خاطفة لواقع وسائل الإعلام في عصرنا الراهن تتضح لنا الحقائق التالية:

أولاً : إن وسائل الإعلام في طرحها لما تسميه بحرية الرأي والتعبير ، توجه سهامها دوما بشكل صريح او بالتلميح للإسلام وحملته متهمة إياهم بالرجعية ورفض التعددية واحتكار الرأي وعدم قبول الآخر ، بينما الحقيقة تنطق أن وسائل الإعلام هذه تقصي حملة الدعوة المخلصين من على منابرها وتطلق العنان لأولئك الذين يحققون غاياتها وأهدافها ممن يجدون في تضليل الناس أو مهاجمة الإسلام وحملته همهم ومبتغاهم .

ثانياً : إن الترويج لحرية الرأي والتعبير وقبول الغير وقبول التعددية -على أي أساس كانت- إن الترويج لهذه المفاهيم في أوساط المسلمين يعد في حقيقته ضرب لمفاهيم الإسلام التي ترفض ما سواها لكون الإسلام الدين الحق وما سواه باطل ، فالقول بحرية الرأي والتعبير وبالرأي والرأي الآخر يساوي بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر وبين الهدى والضلال والنور والظلام .

ثالثاً : إن فكرة قبول الرأي الآخر واحترام آراء الغير قد اتخذت تكئة لتمرير كثير من الخيانات السياسية بدعوى أن اصحابها لهم رؤية ونظرة ولا يحق للآخر قمعهم وتجريمهم ووصفهم بالخيانة فكل واحد له رأيه وله نظرته ولا يملك شخص ان يملي على الغير ما يريد ، ولا يخفى على احد ان هذا الطرح ليس له هدف سوى تمرير المخططات والمؤامرات السياسية التي تحاك ضد الأمة الإسلامية.

رابعاً : تسعى وسائل الإعلام بطرقها واساليبها الشتى-تحت غطاء حرية الرأي والتعبير- الى الترويج لأصحاب الطروحات الهدامة والمناقضة للإسلام عبر استضافتهم المتكررة في كثير من برامجها للترويج لأفكارهم المسمومة.

خامساً : انخراط وسائل الإعلام فيما سمي بالحرب على الإرهاب مما جعل منها رأس حربة في محاربة الإسلام والمسلمين .

سادساً : كذب دعوى الحيادية واتباع وسائل الاعلام لسياسة منهجية تخدم اهداف واغراض سياسية لدول معينة ، ويظهر ذلك جلياً في تغطية وسائل الإعلام لأحداث ليست على مستوى التغطية وفي إهمالها لأحداث أخرى تملئ جوانب البلاد صدى وأهمية ، كما يظهر ذلك ايضاً في تبني وسائل الإعلام لوجهة نظر معينة فتسعى لإثباتها وبرهنتها خدمة لتوجهات أسيادها.

ومن كل ما ذكر نستطيع ان نجمل فنقول إن وسائل الإعلام في مرحلة ما اعتبره البعض انطلاقة إعلامية ، أي مرحلة ما سمي بحرية الصحافة التي اتخذت من حية التعبير و الرأي والرأي الآخر شعاراً لها كانت تهدف الى تحقيق أمور اهمها :

• محاربة الفكر الإسلامي الصحيح بصورة مباشرة أو غير مباشرة والعمل على تضليل الناس وحرفهم عن جادة الحق والعمل على طمس الحقائق وإقصاء حملة الدعوة المخلصين لئلا تسمع بهم الأمة وبطرحهم الذي يلامس عقول وقلوب المسلمين .

• خدمة المخططات الإستعمارية في المنطقة عبر الترويج لها بوسائل شتى تخفى على كثير من العوام .

• دخولها(وسائل الإعلام ) في صراع النفوذ في منطقة العالم الإسلامي ولعبها لدور فاعل في هذا الصراع .

و إزاء هذا كله كان لا بد للمسلمين ان يتنبهوا لدور وسائل الإعلام هذه وأن يدركوا خطرها ليتجنبوا سمومها ولئلا يقعوا في حبائلها ولئلا تنطلي عليهم خدعها التي لاهم لها سوى خدمة مصالح الكفار في بلاد المسلمين بخاصة وفي العالم بعامة .

قضايا الأمة بين المصلحة و الشرع

بسم الله الرحمن الرحيم

قضايا الأمة بين المصلحة و الشرع

كثيراً ما يتمُ تناولُ قضايا الأمةِ من زاويةِ المصلحة ، و كثيراً ما تكونُ "المصلحةُ" هي المبررُ و المسوغُ الوحيدُ للتصرفاتِ التي تمسُ قضايا الأمة ، بل إنها تُتخذُ –في كثيرٍ من الأحيان- مطيةً للتحللِ من قيودِ الدينِ و أحكامِه لذا ، كان حرياً بنا أن نقفَ على مدلولِ المصلحةِ و على مدى اعتبارِ الشرعِ لها و أن نتعرضَ- ولوبشكلٍ موجزٍ- لمن ادّعى أنها مصدرٌ للتشريع و أن نقفَ وقفةً مع من يزيفونَ الحقائقَ و يحرفونَ الكلمَ عن مواضعِه من علماءِ السلاطين الذين اتخذوا من المصلحةِ أداةً للإقرارِ بالكفرِ و السكوتِ عنه و أن نعرضَ ما جلبه التذرع بالمصلحةُ على أمةِ الإسلام من مصائب .

إن المصلحةَ : هي ما يراه الإنسان حسناً جالباً للنفع.

و الحكمُ على الأفعالِ بأنها مصلحة أم مضرة يحتاج الى إدراك جانب الحسن و القبح فيها أي الى إدراك جانب المدح و الذم أي إدراك الافعال التي يثاب عليها المرء و الافعال التي يعاقب عليها و هذا لا يتأتي لإنسان لأن زاوية الحكم و هي الثواب و العقاب ليست محسوسة في الأفعال ، لذا كان لا بد من اللجوء الى الخالق المدبر في استصدار الأحكام على هذه الافعال و كان لزاماً أن يكون حكم الإنسان على الأفعال بالمصلحة مستندا الى شريعة الخالق لا الى العقل الصرف. فالمصلحة إما أن يحددها الإنسان وفق أهوائه و ميوله و أما أن تحدد من قبل الخالق سبحانه و لا ثالث لهذين الحكمين ، فأما أن يكون الشرع هو مصدر الأحكام و إما أن تكون المصلحة بديلاً عنه -و العياذ بالله-و هكذا يجب أن ينظر للمسألة و ذلك لان كلا المصدرين ضدان لاختلاف منبع كل منهما.

و أما حجية المصالح في التشريع و اعتبارها دليلاً شرعياً ، فجمهرة علماء الأمة يردّون المصلحة كمصدر للتشريع نذكر منهم على سبيل الإشارة و المثال لا الحصر ، الامام أحمد ، الشافعي ، أبو حنيفة، و اختلف في نسبته للإمام مالك و نفاه القرطبي عنه ، ابن تيمية ، ابن قدامة المقدسي، الآمدي ،الشوكاني ، و أخطأ البعض في نسبة القول بالمصالح المرسلة لكلٍ من الأمام الغزالي و القرافي و العز بن عبد السلام إذ أنهم يعتبرون المصالح التي يتحدثون عنها هي إختيار الأنسب من دائرة المباح و هذا مغاير لإعتبار المصلحة مصدرا من مصادر التشريع ، و أما من اعتبروا المصلحة مصدراً من مصادر التشريع اعتمد على أدلة ظنوها حججاً تثبت هذه الدعوى و من أشهر ما يستدلون به على اعتبار المصالح المرسلة دليلاً شرعيا هي الأمور التالية –نوردهابشكل موجز- :

1. اعتبارهم أن الشريعة معللة بجلب المصالح و درء المفاسد و اعتبارهم علة الشريعة علة لكل حكم .

2. إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاد معاذ بالرأي لما بعثه قاضياً، وسأله عما يقضي به إذا عرض له أمر ولم يجد حكمه في الكتاب أو السنة وقوله: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول اله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي الله.

3. الواقع يتغير ويتطور باستمرار والمستجدات كثيرة مما يحتاج إلى أحكام لا نهاية لها ولا حصر. أما النصوص أو الأصول الجزئية فهي محدودة متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي، فلزم وجود طريق لإثبات الأحكام الجزئية، وهذا الطريق هو المصالح استناداً إلى مقاصد الشرع على نحو كلي.

إلا أن كل ما أوردوه لا تقوم به حجة لإثبات كون المصالح المرسلة دليلاً شرعيا ، إذ إن الدليل حتى يثبت كونه دليلاً و مصدراً للتشريع بحاجة الى أدلة قطعية تثبته و هذا غير متوفر لدى القائلين بالمصالح المرسلة ، ثم إن إعتبار الشريعة معللة هو خطأ محض إذ أن الشريعة ليست معللة و إنما لها حكمة و هي الواردة في قوله سبحانه(و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) و شتان بين العلة و الحكمة ، فالأولى هي سبب التشريع و معها يدور الحكم حيث دارت و الثانية هي نتيجة الحكم و الغاية المرجوة منه و ليست حتمية التحقق و ليست سبب التشريع كما أن حكمة الشريعة ككل أو علتها-على فرض وجود علة لها- ليست حكمة أو علة لكل حكم جزئي فالحكم الجزئي ترد علته أو حكمته في النصوص الجزئية و إلا لما كان هناك معنى لتعليل كثير من الأحكام بصورة جزئية كما ورد في كثير من النصوص التفصيلية ، ثم إن تغير الواقع و تجدده ليس دليلا على شرعية المصالح المرسلة إذ لو سلمنا بذلك لأدى بنا هذا القول الى وصف الشريعة بالنقصان و رب العزة يقول (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا ) .

و أما استدلالهم بحديث معاذ فما أقره الرسول عليه السلام هو ان يجتهد فيما لا نص صريح فيه و لم يذكر المصلحة البتة و الاستدلال بهذا الحديث مرجوح .

و هنا لا بد لنا من إشارة هامة و هي أن علماء الأمة الذين قالوا بالمصلحة لم يرو عن أحد منهم البتة أن رجح المصلحة على نص تشريعي أو اعتبر المصلحة دليلاً مناقضاً لنصوص القرآن او السنة أو رجح بين نص و بين مصلحة بل إن المصالح عندهم كانت تقسم الى مصالح معتبرة ورد النص بصحتها و مصالح ملغاة ورد النص ببطلانها و أخرى مرسلة و هي التي ينصبوا الأدلة عليها و هم يقصدون بالمرسلة :مرسلة من الدليل الخاص و لا يزعمون أن لا دليل عام يشملها أي لا يعتبرون الشريعة ناقصة و لا يحللون حراماً ورد بنص شرعي و لا يحرمون حلالا ورد جوازه بنص شرعي .

هذا حال السلف من علماء الأمة الذين قالوا بالمصالح المرسلة فهم كانوا علماء أتقياء أنقياء لا يتجرأون على دين الله و لا يحللون ما حرم الله ، وقافين على شرع الله لا تأخذهم في الحق لومة لائم و لا خشية حاكم . و لكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الكتاب و أضاعوا الشريعة و تذرعوا بالمصالح و ضربوا بنصوص القرآن و السنة عرض الحائط فأصبح الربا حلالاً بدعوى المصلحة و أصبح الصلح مع كيان يهود حلالاً لان الاسلام يحث على السلم و في هذا مصلحة و بات التآمر مع أعداء الأمة و موالاة قتلة المسلمين مشروعاً بدعوى المصلحة بل أصبح المسلم يسفك دم أخيه المسلم بدعوى المصلحة و أصبح الرضى بأنظمة الكفر لا بل أن تكون جزءاً منها حتى و لو كانت تحت حراب الإحتلال هو المصلحة .

و وقفة سريعة على حال الأمة عبر السنين العجاف التي عاشتها الأمة عقب هدم الخلافة نجد أن هدم أحكام الإسلام قد بني على المصلحة و التذرع بها و قد أطيح بشرع الله بحجة المصلحة فكانت أم الخيانات بهدم الخلافة و التي زعم هادموها عليهم لعنة الله أنها قد أصبحت عبئاً مما أدى-بحسب زعمهم- الى تفشي الجهل و الفقر و التأخر فزعم هؤلاء أن هدمهم للخلافة سيقود تركيا الى النهضة و الارتفاع بل سيفكك قيودها لتنطلق نحو عنان السماء ، و أمام هذه التغرير الشيطاني نجد أن تركيا قد تخلفت و انحدرت عما كانت عليه و أصبحت مجرد دمية تتقاذها الأيدي الاوربية تارة و الأمريكية تارة أخرى .

و صور المصلحة التي جلبت الدمار و الخراب على أمة الإسلام تمتلئ بها جوانب البلاد الإسلامية فمن دعوى تحرير الكويت-التي جعلت الكويت محمية أمريكية-بدعوى مصلحة البلاد ، الى تآمر المتآمرين من حكام العراق اليوم مع الكفار بدعوى مصلحة البلاد بالتخلص من الطاغية صدام الى تآمر العرش الهاشمي على الأمة الاسلامية بأسرها في حمايته و مساندته ليهود بدعوى مصلحة الأردن و الأردن اولاً كما يرددون و أخيراً و ليس آخراً ما يجري في أرض الإسراء و المعراج فبعد الوعد الشيطاني بأن تصبح فلسطين و أي فلسطين بأن تصبح سنغافورة جديدة أو هونغ كونغ الشرق الأوسط إذا بالبلاد قبل الأوهام و الأحلام تتبخر و إذا باليهود يحكمون السيطرة عليها بل و إذا بهم يستدرجون أهلها للإقرار الشرعي من جميع الشرائح بحقهم في الوجود فتعقد الانتخابات و تشكل الحكومات و تسطر الموائيق و الإتفاقيات و يأتمر الحكام في البلاد العربية و الإسلامية ليستجدوا يهود لتقيم لهم دولة على أقل من 8% من فلسطين ، و كل هذا يتم تحت مسمى المصلحة و مصالح الشعب الفلسطيني العليا أو الدنيا أو غيرها من المسميات .

و لكل هؤلاء نقول أين ذهبتم بشرع الله الحكيم ؟! أين ذهبتم بدين الله المنزل من فوق سبع طباق ؟! أليس الله بعليم خبير ؟! أم عجز شرعه-و حاشا الله ذلك- أن يسد حاجتكم فلجأتم للمصلحة تشرعون منها و تحكمون ، و عن أي مصلحة تتحدثون ؟! إنها بلا شك أهواؤكم و نفوسكم التي تأتمر بأوامر الشيطان فتنساقوا لها و تعيثوا بأحكام الدين فسادا و تحريفاً و تزويراً .


أيها المسلمون :
أنتم قبل كل شيء عبيد لله فأتمروا بأمره و أنتهوا عن نهيه ، و أعلموا أن الشياطين من إنس و جان يغذون الخطى صباح مساء ليضلوكم فاحذروهم و تمسكوا بشرع الله القويم و كونوا حراس أمناء لهذا الدين و اسعوا الى تطبيقه في أرض الواقع بل الى نشره للعالمين لتفوزوا برضى الله و رسوله الأمين
(إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى اللـه ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون . ومن يطع اللـه ورسوله ويخشَ اللـهَ ويَتَّقْهِ فأولئك هم الفائزون﴾ صدق الله العظيم .