مجردُ الوصولِ الى الحكمِ أم إقامةُ الدينِ بالخلافة ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

مجردُ الوصولِ الى الحكمِ أم إقامةُ الدينِ بالخلافة ؟

تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ اليومَ حالةَ مخاضٍ عسيرٍ لميلادِ دولةِ الإسلام دولةِ الخلافةِ الراشدةِ الثانية ، وفي خضمِ هذا المخاض وإدراكاً منه للخطرِ الداهمِ الذي يهددُ كيانَه ، يسعى الغربُ بأساليبَ عدة ووسائلَ شتى أن يعرقلَ مسعى الأمةِ ويوهمَها أن هذا المخاضَ ليس سوى أوهامٍ وعلاماتِ ولادةٍ كاذبةٍ بل إنه ولما ضاقت به السبلُ سعى الى ذرِ الرمادِ في العيون بل ألقى عليها حجاباً ساتراً وأخرج لها في غفلةٍ من امرِها من صنعِ يديه دميةً وحاول أن يقنعَها أن هذه الدميةَ هي الوليدُ المنتظر وأن ما تشعرُ به الأمةُ الآن هو آثارُ الولادة ، فما عليها بعد ذلك سوى أن تحتضنَ هذا الوليدَ وأن ترعاه وأن تصرفَ النظرَ عمن سواه .

تلكم الدميةُ هي الحكوماتُ التي يدير دفتَها من يطلقُ الغربُ عليهم اسم "الاسلاميين المعتدلين" أو "الاسلاميين العصرانيين" ، وهي الحكوماتُ التي وصلَ الى سدةِ الحكمِ فيها حركاتٌ إسلاميةٌ عبرَ بوابةِ الانتخاباتِ الديمقراطيةِ الزائفةِ أو ما يحلو للغرب أن يسميَها باللعبةِ الديمقراطيةِ ، فهل هذه الحكوماتُ تمثلُ تجربةً حقيقيةً لوصولِ الإسلامِ الى الحكمِ بل هل يعتبرُ وصولُ هذه الحركاتُ لسدةِ الحكمِ هو وصولٌ للإسلام؟ ومتى نعتبرُ الإسلامَ وصلَ الى الحكم ؟

للإجابةِ على هذه التساؤلاتِ لا بد لنا من ان ندركَ الظرفَ الذي يحيطُ بالأمةِ الإسلاميةِ اليومَ وأن ندركَ توجهاتِ وتطلعاتِ الغربِ في هذا الشأنِ بإعتبارِه اللاعبَ الأساسيَ في حلبةِ الحكوماتِ والأنظمةِ الهزيلةِ وأن نقفَ على نظرةِ الإسلامِ لهذا الشأن لنخلص بإذن الله الى رأيٍ سديدٍ مبصرٍ بنور الكتاب والسنة ، لا أن نحكمَ على الأمورِ من خلالِ الأهواءِ والرغباتِ والثوراتِ المشاعرية .

لا يخفى على كل مبصر إعلانُ أمريكا رأسَ الكفرِ وقائدةَ طلائعِ الغربِ الصليبي الحربَ المستعرةَ الصليبيةَ من جديد على الأمةِ الإسلاميةِ ، ولقد سعت أمريكا بادئ الأمرِ الى إعلانِ الحربِ على المسلمين بصورةٍ شموليةٍ دون أن تفرقَ بين من تسميهمُ اليومَ (اصوليين ومعتدلين) غيرَ أن عاقبةَ أمرِها كان البوارُ والفشلُ والانتكاسُ المرةَ تلو الأخرى ، فعكفت مراكزُ الأبحاثِ والدراساتِ الإستراتيجيةِ الأمريكية والتي تعتبرُ المغذي الحقيقي للسياساتِ الأمريكيةِ في العالم وبالأخص دول العالم الإسلامي ، عكفت هذه المراكزُ على دراسةِ احوالِ المسلمين والحركاتِ الإسلاميةِ العاملةِ فيها وقد خلصت هذه المراكز ونخصُ بالذكر منها مؤسسة راند -وهي مؤسسةٌ بحثيةٌ لها نفوذٌ كبيرٌ و تأثيرٌ على سياسة الولايات المتحدة الامريكية الخارجية - خلصت هذه المؤسسة في تقريرٍ لها بعنوان : "الاسلامُ المدنيُ الديمقراطيُ: الشركاءُ و المواردُ و الاستراتيجيات" خلصت الى توصياتٍ هامةٍ زودت بها الإدارةَ الأمريكيةَ لتترسمَ خطاها في التعاملِ مع الحركاتِ الإسلاميةِ العاملةِ في بلاد المسلمين . حيث أوصت هذه المؤسسة بضرورة دعمِ الاسلاميين المعتدلين أو العصرانيين ليقفوا سداً منيعاً ضد الأصوليين المتطرفيين -على حد تسميتهم- كما أوصت في تقريرها المسهبِ والمفصلِ الى أساليبَ لحربِ الحركاتِ الإسلاميةِ التي تسعى لإيجادِ الخلافةِ وصنفت المسلمين الى أربعةِ أصنافٍ أصوليين وتقليديين وحداثيين وعلمانيين وارشدت الى ضرورةِ دعمِ التقليديين والعصرانيين لصد موجة التيار الإسلامي الأصولي ومما جاء في تقريرها حول المسلمين الأصوليين (يجبُ محاربتُهم واستئصالُهم والقضاءُ عليهم وأفضلُهم هو ميّتُهم لأنّهم يعادون الديمقراطية والغرب ويتمسكون بما يسمى الجهاد وبالتفسيرِ الدقيقِ للقرآن وانهم يريدون أن يعيدوا الخلافةَ الاسلاميةَ ويجب الحذرُ منهم لأنّهم لا يعارضونَ استخدامَ الوسائلِ الحديثةِ والعلمِ في تحقيقِ أهدافِهم وهم قويوا الحجّةَ و المجادلة.) انتهى النص، لذا ترى الإدارةُ الأمريكيةُ اليومَ أن لا مانعَ لديها من أن يصلَ الى سدةِ الحكمِ في البلاد العربيةِ و الإسلاميةِ حركاتٌ إسلاميةٌ عصريةُ الفهمِ معتدلةُ الرؤيا أي تفهمُ الإسلامَ على المنهجِ الأمريكي الليبرالي ، بل إن وصولَ الإسلاميين المعتدلين على -حد تسميتها ايضا- أصبح ورقةً تستخدمُها للمناوراتِ السياسيةِ ولخدمةِ أغراضِها وأهدافِها السياسيةِ علاوةً على هدفِها الرئيس وهو ضربُ المشروعِ الإسلامي المتمثلِ بإقامةِ الخلافةِ عبرَ تصويرِ الإسلامَ حالَ وصولِه الى الحكمِ بأنه سينخرطُ في التيارِ الرأسمالي الجارفِ وسيبدي الليونةَ بل والمداهنةَ للعالمِ الغربي وبالتالي سيتنازلُ عن أهدافه وغاياتِه ولن يكونَ حالُ الحكمِ في ظل الإسلامِ في المحصلةِ أحسنُ حالاً من حال الأنظمةِ العميلةِ الدكتاتوريةِ الآن مما يؤدي الى زرع بذورِ اليأسِ والإحباطِ لدى المسلمين وإدخالِ الشكِ والريبةِ على فهم المسلمين للإسلام وقدرتِه على إحداثِ التغييرِ الجذري ، وفي هذا السياق أبدت أمريكا استعدادَها للحوارِ مع حركاتٍ إسلاميةٍ معتدلة وهذا ما كان وسكتت على دخولِ حركاتٍ أخرى اللعبةَ السياسيةَ بل ودعمت ذلك .وتبنت على سبيل المثال التجربة التركية بإعتبارها مثالاً ونموذجاً يحتذى به ، مثالاً على مرونة التياراتِ الإسلاميةِ وقبولِها التعاملَ مع الغربِ والسيرِ في سياساتِه ودعت الى تكريسِ هذا النموذج في كثيرٍ من البلدانِ ومما يدللُ على ذلك أنّ وزيرةَ الخارجيةِ "كونداليزا رايس" كشفت عن اقتناع الولايات المتحدة بأهميةِ التحاورِ مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة و أنّ رايس لم تكن وحدها التي صرحت بهذا، فقد قال ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بالوزارة نفسها إن الولاياتِ المتحدة لا تخشى وصولَ تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة لتحلَ محلَ الأنظمةِ القمعيةِ العربية التي"تتسبب بتكميمها الأفواهَ في اندلاعِ أعمالِ الإرهاب، شريطةَ أن تصلَ عن طريقٍ ديمقراطي وأن تتبنى الديمقراطيةَ كوسيلةٍ للحكم.].

وأمامَ هذا السعيُ الخبيثُ والمكرُ الشيطانيُ للحيلولةِ دونَ عودةِ الإسلامِ في دولةٍ حقيقيةٍ ، دولةٍ تطبقُه تطبيقاً كاملاً غيرَ مجزأْ ولا منقوص ولكي نبصرَ هذا الواقعَ الخطيرَ بنورِ الكتابِ والسنةِ لا بدَ لنا من أن نذكرَ الأمةَ وأن نؤكدَ على الحقائقِ الشرعيةِ التالية :

1. إن الإسلامَ طرازُ عيشٍ فريدٍ وبتطبيقِه تطبيقاً كاملاً يوجدُ النموذجُ الإلهيُ الذي ارتضاه ربُ العالمين للبشر في أرضِ الواقعِ فهو غنيٌ عن ان يتطفلَ على ما سواه أو أن يفتقرَ الى غيرِه وليس الرضى بوصولِ الحركاتِ الإسلاميةِ الى سدةِ الحكم عبر بوابةِ الديمقراطية ومن خلال الرضى بأن يكونَ الإسلامُ جزءاً من نظامِ الكفر المطبقِ ليس الرضى بذلك سوى تقزيمٌ للنموذجِ الرباني ورضىً بسيادةِ الكفرِ على الإسلام ، فليس من نهجِ الاسلامِ شراكةُ المبادئِ الأخرى أو حتى الاقرارُ بها (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

2. إن تطبيقَ الإسلامِ في أرض الواقع وحملَه رسالةً الى العالم يتوقفُ على وجودِ الإسلام في الحكم أي مجسداً في في دولةِ الخلافة فهي الطريقُ الشرعيُ الوحيدُ لتطبيقِ الإسلامِ وحملِه الى العالم (الامامُ جنةٌ يقاتلُ من ورائِه ويتقى به) .

3. ليس من نهج الإسلام في الوصول الى الحكم أن يُتوسلَ اليه بتركِ تطبيقِ الإسلامِ أو بعضِ أحكامِه أو حتى أخذُه مشروطاً ولا أدلَ على ذلك من مواقفِ الرسولِ عليه السلام في سعيه لإقامةِ دولةِ الإسلام فقد رفضَ عليه السلام الوصولَ الى الحكمِ دونَ أن يجعلَ الإسلامَ محلَ التطبيق ، فرفضَ أن يصلَ هو بشخصِه وأن يتركَ الإسلامَ خارجَ سدةِ الحكم فقد عرضَ عليه كفارُ مكةَ الحكمَ والسيادةَ والسلطانَ والجاه دونَ أن يقيمَ فيهم حكمَ الله ودونَ أن يقيمَ فيهم شرعَه بل أن يستلمَ الحكمَ بشخصِه فحسب لكنه عليه السلام رفضَ ذلك رفضاً كلياً فكانَ مما عرضوا عليه قولهُم (فإن كنتَ إنما بك الرئاسةُ عقدنا ألويتَنا لك فكنتَ رأسنا مابقيت) فما كان من رسولِ الله إلا أن قرأَ عليهم آياتٌ من سورةِ فصلت من بدايتها الى قولِه سبحانه (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) في ردٍ صارخٍ منه عليه السلام فإما أن يصلَ الإسلامُ الى الحكمِ وأن تستجيبوا استجابةً كاملةً مستسلمةً لأمرِ الله وإما أن يصيبَكم ما اصابَ من كان قبلَكم بل إن عليه السلام رفض أن يصلَ الى الحكم مُطَبِقاً للشرع بشرطٍ يخالفُ المبدأ ولو في جزئيةٍ فقد عرضَ عليه بنو عامر بن صعصعة النصرةَ شرطَ أن يكونَ لهم الأمرُ من بعده ، وبرغم الحاجةِ الماسةِ للنصرة إلا أنه عليه السلام رفضَ التنازلَ ولو في جزئيةٍ واحدةٍ فردَ عليهم قائلاً (الأمرُ لله يضعه حيث يشاء)

4. إن وجودَ الإسلامِ في الحكمِ هو حكمٌ شرعيٌ قطعيٌ لا يقبلُ الاجتهادَ أو التأويلَ أو الخلافَ وهذا يقتضي بناءَ القاعدةِ الشعبيةِ بتوحيدِ الآراءِ والافكارِ والاحكامِ من أجل توحيدِ هدفِ الأمة نحوَ إستئنافِ الحياةِ الإسلامية من أجل تطبيق الإسلام تطبيقاً إنقلابياً شاملاً فليس من طريقةِ الإسلام التدرجُ بتطبيقِ أحكامِه (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) .
5. إن المفاصلةَ بين الحقِ والباطلِ وعدم المهادنة والمواربة والمجاملة هي نهج الاسلام الذي لا يقبل التغير والتبدل (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) .

6. إن الطريقَ العمليَة والشرعيَة للوصولِ الى الحكم هي طريقُ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا طريقَ غيرها ولا يكون الوصول الى الحكم عبر بوابة الانتخابات الديمقراطية الزائفة (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) .

7. إن التوسلَ للأحكامِ الشرعيةِ بالمصلحةِ( التي تعتبرُ آفةُ العصر) لا يمتُ للإسلام بصلة بل لقد أصبحَ هذا النهجُ ديدنَ من يريدُ تحريفَ أحكامِ الإسلامِ وليِ أعناقِ النصوصِ لتوافقَ الواقعَ باسمِ المصلحة .

أيها المسلمون : بالعملِ وفقَ الطريقِ الشرعيةِ عبر التأسي بنهج الرسول عليه السلام يكونُ الوصولُ الى الخلافة وبالخلافةِ وحدَها يصلث الإسلامُ الى الحكمِ وبالخلافةِ وحدَها يُطبقُ الشرعُ كاملاً غير منقوصٍ ولا مجزأ ، وبالخلافةِ وحدَها تقامُ دارُ العدلِ وتُحمى الثغورُ وتصانُ الأعراض ، وبالخلافة وحدَها يوجدُ النموذجُ الإسلاميُ في أرضِ الواقعِ ، وبالخلافةِ وحدَها يكونُ النصرُ والتمكينُ ، فلا يغرنَّكم تضليلُ المضللينُ ولا خدعُ المخادعين ولا كيدُ الكافرين واعملوا بجدٍ الى يومٍ يقامُ فيه الدينُ عبرَ اقامةِ الخلافةِ وكونوا من أهلِها وبُناتِها كي يسجلُ في صفحاتِكم بماءٍ من ذهب أنكم -بإذن الله- أقمتم الخلافةَ كما أقامَها من قبلِكم خيرُ البشر فتفوزروا بإذن الله بعز الدنيا وثوابِ الآخرة .(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

اللهم أجعل خلاصنا بالخلافة قريبا ،واجعلنا اللهم من بناتها ومن لبناتها ،اللهم انفعنا بما علمتنا
ولا تمتنا الا وانت راض عنا اللهم آمين .

ليست هناك تعليقات: