بارونات المال والنفط والسلاح هم راسمو السياسة الغربية


في مقال له نشر على صحيفة "ذي اندبندنت" مؤخراً، تناول الكاتب الصحفي البريطاني روبرت فيسك حروب الشرق الأوسط وأزماتها من زاوية مالية، أبرز من خلالها حجم الخسائر التي تتكبدها الدول في هذه الصراعات، وتكلفة هذه الحروب والتي تقدر بالأرقام الفلكية.

ولم يكشف فيسك سراً عندما تحدث عن تمويل دول الخليج لحرب الخليج الثانية، وعشرات المليارات التي دفعها النظام السعودي والكويتي كفاتورة للتدخل الأمريكي.

وعرّج فيسك بشكل مستور على الصراع الاستعماري الذي يستنزف المنطقة وكلفته المالية، حيث قال "إلاّ أن دافعي الضرائب الاميركيين كانوا من بين الذين سددوا تلك التكاليف (بتمويلهم للإسرائيليين) وكذلك الحال بالنسبة لدافعي الضرائب الاوروبيين وللحكام العرب ولغريبي الاطوار في ايران (بتمويلهم للبنان). وهكذا يعمل دافع الضرائب الاميركي على تهديم ما اعاد دافع الضرائب الاوروبي بناءه".
ورأى فيسك أن تجار السلاح الأمريكيين يحصلون على أرباح مهولة جراء تلك الحروب.

لقد أثارت هذه المقالة بعضاً من الإضاءات الجيدة على إهمال السياسة الدولية للقيمة الإنسانية وللمجتمعات البشرية ومرورها على حياة الآلاف بل مئات الآلاف من البشر مرور الكرام!

لكن مقالة فيسك كانت قاصرة في جوانب عدة؛ من أبرزها تشخيص السياسة الغربية، أوروبية كانت أم أمريكية، ودوافعها، وتاريخها الذي ينبئ عنها بحقائق وأرقام لم تخطئها عين بصيرة. الأمر الذي دعاني لكتابة هذه السطور لأسلط فيها الضوء على مرامي السياسة الدولية وأهدافها ومن يقف خلفها.

يتشكل الموقف الدولي الذي يحدد هيكل العلاقات السياسية الدولية من الدولة الأولى في العالم والدول المؤثرة سياسياً والمزاحمة لها. حيث تلعب تلك الدول الدور الرئيس في إدارة شؤون العالم، وهناك لاعبون فرعيون وآخرون مجرد كرات تتقاذفها أرجل السياسيين.

وتعتلي الولايات المتحدة الأمريكية قائمة اللاعبين الدوليين في الوقت الراهن يليها دول أوروبا ممثلة في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتليها روسيا، وتحتل اليابان والصين مركزاً اقتصاديا يؤهلها للتأثير في قضايا إقليمية محدودة.

وترتكز كل من الولايات المتحدة وأوروبا في رسم سياستها الخارجية على المبدأ الرأسمالي، والذي يعد الاستعمار مكوناً رئيساً من مكوناته بل هو طريقة نشر المبدأ الرأسمالي للأمم والشعوب الأخرى، بل إن الاستعمار بسبب ثماره اليانعة وبسبب الأفواه الغربية الشرهة والجشعة بات غاية الدول الغربية ومحط أنظارها.
وجراء الصراع الاستعماري بين كل من أمريكا وأوروبا على نهب ثروات العالم، أخذ الاستعمار أشكالا متعددة منها العسكري ومنها السياسي والاقتصادي...لتتلاءم هذه الاشكال مع الدول الاستعمارية وتطلعاتها.

الثابت في كل المعطيات السابقة أن الذي يحكم علاقة القوى الفاعلة سياسياً ببقية دول العالم هو الاستعمار، وأن القوى الاستعمارية لا ترى في بقية دول العالم سوى لقمة تريد التهامها أو فريسة مهيأة للصيد.

تلك النظرة هي التي جعلت الرأسماليين وأصحاب الشركات الكبرى ومصانع السلاح وبارونات النفط هم راسمو السياسة الغربية، فبيدِ هؤلاء أن يأتوا برئيس وأن يخلعوا آخر، وبيدِ هؤلاء أن يعلنوا حرباً أو يوقفوها، وبيد هؤلاء أن يحددوا معالم السياسية الخارجية بل وتفصيلاتها، فهم من يمول الحملات الانتخابية للأحزاب الحاكمة وبيدهم الإعلام وبيدهم رأس المال.

يقول ويليام غرايدر، صاحب كتاب من سيخبر الشعب Who Will Tell The People، يقول فيه ..."إن الديمقراطية الأمريكية تعاني من خلل أعمق بكثير مما يريد معظم الناس الاعتراف به. فخلف هذه المظاهر الزائفة التي تبعث على الاطمئنان مثل مسابقات الانتخابات المنتظمة وغيرها، تم إفراغ الحكومة الذاتية من مفهومها الجوهري... وعلى أعلى المستويات في الحكومة، انتقلت سلطة صنع القرار من الأكثرية إلي الأقلية، تماماً كما يشك في ذلك الأفراد والمواطنون العاديون. وبدلاً من الرغبة الشعبية، تستجيب الحكومة الآن لإملاءات الطبقة الصغيرة التي تستحوذ على السلطة، التي تمثل مصالح المنشآت الاقتصادية الكبرى والثروة المتركزة في أيدي النخبة والصفوة من الناس ذوي التأثير البالغ... لقد تقلص الاختلاف والتباين المفيد والمعقد بين أفراد الأمة ليصبح سلعة بلهاء أطلق عليها اسم الرأي العام، الذي يمكن بسهولة التلاعب به أو إثارته بالشعارات، أو التصورات التي تطلقها وسائل الإعلام والدعاية".
لذا فدافع الضرائب الأمريكي أو الأوروبي لا يقدم ماله أو حتى روحه وأرواح أبنائه جراء مغامرات سياسية بل لجلب منافع استعمارية لبارونات المال والنفط والسلاح. مما جعل المواطن الأمريكي والأوروبي ضحية سياسات استعمارية لا تعود عليه بالنفع بل تعود خيراتها على مصاصي الثروة والذين لا يتجاوزون  2 أو 5% من نسبة السكان في كل من الولايات المتحدة وأوروبا على أبعد تقدير.

إن الإنسان لا قيمة له في النظرة الاستعمارية، بل القيمة في المال وما سيجلب من منافع جمة، وإن ادعاء نشر الديمقراطية والحريات وأضرابها ليست سوى دعاوى زائفة يراد لها أن تبرر أفعال مصاصي الدماء هؤلاء أمام شعوبهم وأمام العالم، والحقيقة التي ما عادت تخفى على أحد أن السياسة الأمريكية ومثلها الأوروبية، تصب في منفعة بارونات المال والنفط والسلاح.

إن مثلث الفساد هذا هو الذي يحكم علاقات الولايات المتحدة بالعالم، وهو الذي يرسم لها السياسات، فلأجل هؤلاء شنت الولايات المتحدة حرب العراق، ولأجل هؤلاء أحتلت أفغانستان، ولأجل هؤلاء لا زالت مستعدة لخوض أي حرب قادمة إن رأت فيها مصلحة مادية، وبسبب هؤلاء غرقت أمريكا والعالم في أزمة اقتصادية لا نهاية لها.

والأمر المؤكد أن السياسات الغربية الكاذبة لا تقيم وزناً لأرواح أبنائها سوى بالقدر الذي يمكن أن يخلق رأياً عاماً يعطل مصالحها أو تمرير سياساتها الاستعمارية.
أما عن أرواح بقية البشر فلا وزن لهم ولا اعتبار، وكل التباكي على أطلال الإنسانية وحقوقها ليست سوى أكاذيب ومحض تضليل، وهيتي وأطفال الصومال شاهد متواضع على ذلك.
ونظرة تاريخية بسيطة ترينا أن المبدأ الرأسمالي بدوله وسياساته الاستعمارية هو من جلب الشقاء لشعوبه وللبشرية جمعاء.

فالدول الغربية هي من أشعلت حربين عالميتين لا نظير لهما، أودتا بحياة الملايين دون أن تقيم لهم وزناً او اعتبار، وكانت الهيمنة السياسية الدولية التي يتبعها شره استعماري يقف خلف تلك الحروب خلافاً لما يروج له من اسباب ظاهرية خادعة.

وسياسات أمريكا الرأسمالية هي من سببت للعالم أزمة اقتصادية أرهقته وسلبته ماله وثرواته جراء سيطرة دولارها على اقتصاد العالم، لتحمّل العالم عبء تصرفات بارونات وول ستريت وسرقتهم للأموال والجهود والثروات.

إن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها البشر ليست المغامرات السياسية، وليست خسارة الأموال والإنفاق على الحروب فحسب بل هي المبدأ الرأسمالي بعينه الذي خلف هذه السياسات وهذه الطبقة المتحكمة في مصير العالم والتي لا ترقب فيه إلاً ولا ذمة.

أما عن تشخيص واقع الأنظمة العربية وما يسمى بدول العالم الثالث فهي بلا شك لا وزن لها في رسم السياسات الدولية بل هي الكرة التي تتقاذفها أرجل السياسيين الغربيين، وبلدانها هي ساحات الصراع الاستعماري، وأبناؤها هم وقود هذا الصراع، وثرواتها هي ما يزيغ أبصار المستعمرين.
وبالرغم من ذلك كله، فالمسلمون هم المؤهلون للعب دور ريادي في إنقاذ العالم وتخليصه مما يعانيه، وتحريره من هيمنة مصاصي الثروة.

فالأمة الإسلامية تمتلك مبدأ قادراً على تطبيق العدل ونشره، ولديها من الطاقات البشرية والمادية ما يمكنها من لعب هذا الدور، ولطالما كانت الأمة الإسلامية وأبناؤها شموعاً تحترق لتضيء للآخرين العتمة، ولم تكن المصالح المادية أو الاستعمارية واردة في حساباتها يوماً، فهي أمة مبدئية تقدم روحها وأموالها في سبيل المبدأ ونشره ليعم الخير على البشرية.

وها هي الأمة عبر ثلة سياسية واعية تسعى من جديد لتستعيد الأمة الإسلامية مكانتها بين الأمم لتباشر إنقاذ العالم وتحريره. لكن تلك المساعي لا تروق لبارونات المال والنفط والسلاح، فيستنفر هؤلاء سياسييهم وجيوشهم فيعلنوا الحرب على كل ما يمكن أن يهدد نفوذهم، ولو أدى ذلك إلى أن يدوسوا قانونهم بأقدامهم، أو أدى إلى تدمير دول بأكملها.
لكن عتمة هؤلاء الخفافيش لن تدوم وسيسطع فجر الإسلام قريبا ليبدد هذه الظلمة وينشر العدل والخير والهدى للعالمين.

الفاتيكان وتضليله السياسي

لا يخفى على المتابع عمق الخصومة التي تكنّها مؤسسات الغرب النصرانية للإسلام وأهله، وبالرغم من دعوات الحوار الزائفة ومحاولة التقريب بين الأديان التي تتشدق بها المؤسسات الكنسية، إلا أن طابع الخصومة والحقد الدفين بقي هو العلامة المميزة والطابع الدائم لهذه العلاقة.

فبابا الفاتيكان الحالي بنديكتوس السادس عشر لم يخف ذلك عندما هاجم الإسلام واصفا اياه بالهمجية وهاجم نبي الرحمة عليه السلام في محاضرة له في جامعة ألمانية، كما أنه غمز ولمز في الإسلام في اجتماعه الأخير بأساقفة الشرق الأوسط بقوله "على ما يبدو ترتكب أعمال العنف باسم الله، لكنها في الواقع ديانات زائفة يجب كشفها"، وما أسماه بـ"سلطة الأيديولوجية الإرهابية"، كما أن فكرة حرق القرآن خرجت من رحم كنائس الغرب بالرغم من معارضتهم الظاهرية للفعل، وكثيرة هي الحوادث التي تعكس مدى ما تخفيه المؤسسات الكنسية الغربية من حقد وبغضاء تجاه المسلمين.

لقد نص المبدأ الرأسمالي على فصل الدين عن الدولة، وجعل في أبجدياته "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وبالرغم من خطأ هذا الأساس الذي قام عليه المبدأ الرأسمالي بجملته وتفصيلاته، إلا اننا نلاحظ استثمار الرأسماليين للدين النصراني دوماً في أية أحداث سياسية يكون طرفها الآخر هم المسلمون، وتبرز للعيان وكأن العلاقة أو الصراع قائم بين النصرانية والإسلام في هذه الحوادث، والحقيقة أنها بين الرأسمالية مسخِرة للنصرانية وحقد مؤسساتها على الإسلام من جهة وبين الإسلام من جهة أخرى.

وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على حرص الرأسماليين على إذكاء جذوة الحقد الدفين الذي غرسته المؤسسات الكنسية الغربية ضد الإسلام وأهله.

لذا لم يكن غريباً أن يحشد الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش الأمريكيين والغرب خلف حربه على أفغانستان تحت مسمى الحرب الصليبية، ولم يكن غريباً أن يتم الكشف عن الكتب التبشيرية التي يروج لها الجيش الأمريكي في أفغانستان.

إن الحكومات الغربية لا تقيم وزناً لصالح الدين النصراني كما تتوهم الشعوب الغربية بل هي لا تعترف بالقيم الروحية أصلاً وان غضّت الطرف عنها، وإنما تهتم بمصالحها السياسية الاستعمارية، وما حرص الحكومات على نشر النصرانية سوى لاستغلالها كأداة لخدمة مخططاتها السياسية لا سيما تلك التي تستهدف العالم الإسلامي. والأمثلة على ذلك لازالت شاخصة في جنوب السودان وفي لبنان وفي نيجيريا.

لقد كانت المؤسسة الكنسية الغربية طوال العصور الغابرة أداة تُسخر لصالح السياسيين على اختلاف مسمياتهم، فكانت في العصور الوسطى أداة للإقطاعيين تشرع إجرامهم بحق الناس حتى عدّها البعض مكوناً من مكونات النظام الإقطاعي، واليوم تلعب الكنيسة نفس الدور لصالح الرأسماليين والسياسيين الفاسدين في كافة الدول الغربية وتروج لمشاريعهم الاستعمارية.

وها هو بابا الفاتيكان في سينودس الشرق الأوسط للأساقفة الكاثوليك المنعقد في الفاتيكان يشرع الوجود اليهودي على أرض فلسطين المغتصبة ويروج للمشروع الأمريكي مشروع حل الدولتين، ويقر بسيطرة يهود على القدس، وان دعا لتدويلها، خلافاً للعهدة العمرية، التي عاش النصارى في كنفها بحرية وتم استبعاد يهود منها بناء على طلبهم ذلك من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

لقد عاش النصارى في كنف الخلافة الإسلامية على اختلاف عصورها عيشة كريمة، حفظت فيها الخلافة لهم حقوقهم الرعوية فكان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وتركتهم وما يعتقدون وما يعبدون دون أية مضايقة، بل إن الرسول عليه السلام قد جعل أذيتهم جرماً وحرم أن تخفر ذمتهم، وأوجب الدفاع عنهم وأمر بحسن معاملتهم "ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة"، وبالرغم من أن الإسلام يدعو النصارى واليهود لاعتناق الإسلام باعتباره ناسخاً للأديان السابقة إلا أنه لا يجبر أحداً على اعتناقه بل يدعوهم لذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولقد شهد التاريخ دخول العديد من أهل الكتاب في الإسلام دون إكراه أو إجبار حتى إن الذين بقوا على دينهم قاتلوا الصليبيين جنباً إلى جنب المسلمين إدراكاً منهم لتسخير حكام أوروبا للكنيسة لصالح أطماعهم الاستعمارية وحفاظاً منهم على المجتمع الإسلامي الذي عاشوا فيه بكرامة واحترام. 

إن الأجدر في نصارى الشرق ولا سيما نصارى فلسطين أن يرفضوا تسييسهم من خلال المؤسسات الكنسية وعلى رأسها الفاتيكان التي دأبت على خدمة المشاريع الاستعمارية للقوى الدولية، وأن يرفضوا أن يكونوا أداة بيد هؤلاء الرأسماليين المستعمرين، وأن يرفضوا زجهم في متاهات الصراعات الاستعمارية، وأن يناصروا سعي المسلمين لإقامة الخلافة التي تعيد تطبيق العهدة العمرية فيعيشوا في كنفها برغد واطمئنان.

مناهج التعليم تنبت من سحت المانحين!

لم يخطئ المثل القائل "التعليم في الصغر كالنقش في الحجر"، ونال المثل "من شبّ على شيء شاب عليه" جانباً كبيراً من الصحة، ولم يغال الناس باهتمامهم بتعليم أبنائهم منذ نعومة أظافرهم شتى أنواع العلوم والمعرفة.

لذلك سعت المجتمعات البشرية منذ قدمها لابتكار أماكن التدريس والكتاتيب المختصة التي تعلم الناس القراءة والكتابة وشتى العلوم، والتي تطورت لتعرف بالمدارس ومن ثم ابتُكرت المعاهد والجامعات.

وكان الاهتمام البالغ لدى المسلمين على مر العصور في تعليم الأطفال ينصب على تنشئتهم بحسب ثقافة الأمة، وتكوين عقليتهم ونفسيتهم بحسب هذه الثقافة لتخرّج تلك المدارس شخصيات إسلامية متميزة، ترى العالم من منظور محدد وتقيس الأمور والحوادث بمقياس محدد بالغ الدقة. ولم تُهمل العلوم الطبيعية في عصر من عصور المسلمين، ويكفي الإشارة إلى ريادة المسلمين في كافة المجالات العلمية للدلالة على براعتهم في هذه المجالات.

ولقد أدرك الكافر المستعمر، من خلال تاريخ طويل من التجارب، ضعفه في معاركه الفكرية مع المسلمين طالما أنهم متمسكون بشريعتهم وبأحكام وافكار دينهم، وطالما أنهم ينهلون من هذا المعين الصافي دون شوائب، لذا عمد إلى الغزو الثقافي والتبشيري لبلاد المسلمين مما هو معلوم ولا يحتاج لتكرار سرد، وها هو الكافر المستعمر اليوم يسير على نفس الخطى وها هو يعمد إلى تحريف وتغيير مناهج التعليم في بلاد المسلمين كأداة وركيزة هامة في حربه الفكرية والحضارية ضد المسلمين.

إن العلاقة التي تربط المسلمين بدول الغرب –بعيداً عن البهرجات الإعلامية والعلاقات العامة والدعاية- هي علاقة صراع حضاري مبدئي يسعى من خلالها الغرب إلى تكريس هيمنته على بلاد المسلمين، وزرع مفاهيمه الخاطئة عن الحياة في عقول وقلوب المسلمين ليبقي قبضته على بلادهم، ينهب ثرواتهم ويستعبد شعوبهم. ولم يجد الغرب من وسيلة أسهل للنفاذ إلى عقول المسلمين من اختراق مناهج تعليمهم في ظل أنظمة سياسية تدين له بالطاعة والولاء.

وحوادث تدخل القوى الغربية الاستعمارية في صياغة مناهج التعليم -لا سيما ما يتصل منها بالثقافة والتاريخ- في مصر والمغرب العربي والحجاز وغيرها مما لم ينشر ويظهر للإعلام خير شاهد على ما أقول.

ما دفعني للكتابة ولهذه المقدمة ولتناول موضوع ربما يراه البعض قديماً بالرغم من حداثة كثير من فصوله المتغيرة لا سيما في فلسطين، هو ما تناقلته وسائل الإعلام حول عزم السلطة من خلال وزارة التربية والتعليم تدريس كتاب تاريخ يعرض وجهتي النظر للطرفين المتصارعين في فلسطين بعنوان "تعلم رواية الآخر" وهو كتاب من إعداد أستاذ فلسطيني وآخر يهودي بدعم سويدي.

وبالرغم من نفي بعض المسؤولين من وزارة التربية ولجنة المناهج عزم الوزارة على تدريس الكتاب المذكور لطلاب المدارس، لكن المشروع لا زال قائماً والكتاب قد تم اعداده وهناك أخبار ترد عن عزم السويد (الدولة الممولة للمشروع) عقد ورش عمل بهذا الخصوص بين أساتذة وطلاب فلسطينيين و"إسرائيليين".

كما كشفت وسائل الإعلام أثناء كتابتي لهذا المقال عن اتفاقية مشابهة موقعة بين بلدية كونج لاف ووزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية محتواها (برامج تعليمية من فلسفة برايم) الرئيسية من 2010-2012 وتضم 10 طلاب ذكور واناث من عمر 16-18 سنة ومعلمين لكل مجموعة وفي نهاية الفترة المحددة سيتم تقييم المشروع، ومناقشة امكانية جعل الاتفاقية دائمة وسيكون لمؤسسة برايم دور كمساهمين في المشروع.

وهدف هذا المشروع (حسب ما ورد في الاتفاقية) أهمية التنافس في السرد التاريخي، في الوقت نفسه سيكون من واجبهم التعريف بأسس التفاهم المتبادل.

ما يلفت النظر في هذه الحوادث التي فضحت إعلامياً مما استدعى النفي الرسمي لبعضها في بعض تفصيلاتها، هو وقوف الدول المانحة وراء مشاريع تتصل بإعداد المناهج، وكيف تسمح السلطة وأي نظام في أي بلد كان –لو توفرت له الإرادة والسيادة- أن تتدخل قوى أجنبية صديقة كانت أم عدوة –وفق ما يحب من التصنيفات- في مناهج تعليم أبنائه أو حتى مشاريع خاصة تتصل بها؟! وسواء أكان الحديث عن هذا الكتاب أم عن هذه الاتفاقية أم عن غيرهما، كيف تسمح السلطة وتسوغ لنفسها ان تتلقى الدعم والتمويل المالي من الدول المانحة لتعدّ لأبنائنا منهاجاً من سحت المانحين؟! أليس من يملك المال يملك القرار؟! أليس الممول هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المشروع الذي موّله؟! ألا يسمى ذلك تمكين للدول الغربية والمسماة بالمانحة من عقول أبنائنا فلذات أكبادنا؟! وهل من لديه أدنى المعارف السياسية يمكن أن يظن أن في سياسات الدول الغربية شيئاً لوجه الله؟!

وامام هذه الحوادث التي أعتبرها جريمة بحق التعليم وبحق فلذات أكبادنا أود في هذه العجالة التأكيد على الأمور التالية علها أن تلامس عقل رشيد فيوقف هذا العبث اللامسؤول بحق أبنائنا:

1. إن الأصل في مناهج التعليم أن تستقي المعلومات مبنية على عقيدة الأمة، فتكون العقيدة هي مقياس الصواب والخطأ في أية معلومة يتلقاها الطالب، وإن تدريس أية معلومة لم تستند إلى عقيدة الأمة هو تخريب لعقلية أبنائنا وسعي لغرس المفاهيم الغربية الغريبة عنا في عقولهم.

2. إن التذرع بتدريس الرأي الآخر لنقضه ودحضه هو حجة واهية إن كان الأمر يتعلق بطلاب مرحلة أساسية أو ثانوية لم تكتمل بناء العقلية السليمة المستندة لعقيدة الأمة لديهم، فهم غير قادرين على تمييز الغث من السمين، مما يجعلهم عرضة للتشويش الفكري ويزعزع ثقتهم بما يحملون من أفكار، هذا على فرض أداء المناهج التعليمية لمهمة بناء العقلية بناءً سليماً، وعلى فرض أن تدريس الرؤية "الإسرائيلية" لقضية فلسطين إنما هو لنقضها، والحقيقة أنها لا تسرد للنقض بل للعرض "بحيادية!".

3. إن المشاريع الغربية في المنطقة، لا سيما تلك المتصلة بمناهج التعليم لا يمكن فصلها أو انتزاعها من سياق الحرب الحضارية التي يشنها الغرب الرأسمالي على بلاد المسلمين، وكل تحريف لسياق هذه الحملة ومحاولة تلبيسها بحجج وذرائع واهية هو تضليل وتزييف للحقائق ومخالفة لقطعي النص القرآني الذي أخبرنا عن أهداف مشاريعهم وإنفاقهم لأموالهم على المسلمين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

4. إن سياسة منع التحريض في مناهج التعليم الذي تطالب به كل من الولايات المتحدة ودولة يهود ترمي إلى نزع المسلمين من ثقافتهم وتركهم لتاريخ العلاقة بيننا وبين يهود وتحريف الحقائق القرآنية الثابتة بحق يهود ووجوب مقاتلهم باعتبارهم مغتصبين لأرض الإسراء والمعراج، والرضى بهذه السياسة والسير بها هو طعن للمسلمين من الخلف واصطفاف بجانب أعداء الامة.

5. إن هذه المشاريع المشبوهة هي حلقة من حلقات التطبيع الفعلي لا سيما في أوساط شريحة هامة وهم شريحة الطلاب.

6. إن أهل فلسطين وعموم المسلمين هم أصحاب الحق في هذه الأرض المباركة، وفلسطين كاملة غير منقوصة او مجتزأة هي أرض خراجية رقبتها ملك للأمة الإسلامية، وكيان يهود هو كيان محتل غاصب لهذه الأرض لا يصح الاعتراف بشرعيته ولا مفاوضته، ويجب على الأمة عامة وعلى أهل القوة والمنعة فيها على وجه الخصوص التحرك عاجلاً لاقتلاع هذا الكيان السرطاني واستئصاله والقضاء عليه قضاءً مبرماً، وتطهير أرض فلسطين المباركة مسرى النبي محمد عليه السلام من رجس يهود.

هذه هي الحقيقة الثابتة المبنية على عقيدة الأمة وشريعتها التي يجب أن تدرس لأبنائنا، وكل قول خلافها يرد، وكل سعي لزرع مفاهيم "التعايش" والرضى بالمحتل هو جريمة يجب وقفها.

خيارات الحرب والسلام، القضية الفلسطينية نموذجاً

منذ 18 عاماً والمنطقة مشغولة بمسلسل مفاوضات آخذ بعضها برقاب بعض، ومنذ عقود اتخذ الحكام العرب قراراً باتخاذ خيار السلام خياراً استراتيجياً لهم ورموا وراء ظهورهم خيار الحرب إلى غير رجعة، وبين هذا وذاك برزت خيارات المقاومة والمقاومة الشعبية والممانعة، فمتى تتخذ الأمم والشعوب خيار الحرب أو خيار السلام؟ ثم ما هو الخيار الإستراتيجي وكيف للأمم أو الشعوب أن تحدد لنفسها هذه الخيارات؟

أسئلة تستدعي الوقوف عليها لا سيما إذا أخذنا القضية الفلسطينية نموذجاً بما يكتنفها في وقتنا الراهن من فوضى في اتخاذ القرارات وتسليم مطلق للمشاريع الغربية جراء تمسك السلطة الفلسطينية والحكام العرب بخيار السلام.

في أعراف الدول والأمم والشعوب توجد مصالح حيوية وأخرى ثانوية، وجراء تحديد تلك المصالح إما وفق مبدأ الأمة إن كانت الأمة صاحبة مبدأ وإما وفق متطلبات عيشها ومستلزماته كدولة وشعب عيشاً كريماً في حال فقدانها لمبدأ موجه لها في الحياة، تتخذ الأمم والشعوب والدول من المصالح الحيوية قضايا مصيرية لها أو ما يسمى بلغة إعلام اليوم بالخطوط الحمراء التي تتخذ الشعوب اتجاهها إجراء الحياة أو الموت.

لذا فالخيار الإستراتيجي لأية أمة أو شعب هو قضية مصيرية تقدم في سبيله الأمة أو الشعب الغالي والنفيس والأرواح والأموال في سبيل تحققه بل إن قضايا الأمم الحية والمبدئية يمكن أن تفنى الأمة في سبيل تحقيقها. لذا فخيار الأمة الإستراتيجي غير قابل للتفاوض أو المساومة وإلا لم يكن استراتيجياً أو مصيرياً ولا تتخذ الأمم الحية تجاهه سوى خيار الحرب، وفي حالة ضعفها وهزيمتها يُفرض عليها خيار السلام ولا تلجأ إليه اختياراً، إذ في حالة الهزيمة تصبح الأمة أو الدولة غير قادرة على أن تتخذ وتحدد لنفسها خيارات إستراتيجية فهي لم تعد تملك من أمرها شيئاً.

وبالعودة إلى القضية الفلسطينية وخيارات الحرب والسلام، فمن أدرك جوهر هذه القضية ولم يتأثر بعوامل التضليل والتغشية والمغالطات الدائمة والمستمرة في الحقائق يدرك أن قضية فلسطين لا تفهم إلا على صعيد واحد، وهو أن فلسطين أرض محتلة قد غشيها عدو غاصب وأعانته على ذلك قوى غربية استعمارية وتآمر معه حكام عبيد. والحال كذلك فلا خيار يتخذ بحق هذه القضية وتجاهها سوى خيار الحرب لا غير. وكل خيار آخر هو تفريط بهذه الأرض المحتلة ورضا بإلقامها أو إلقام جزء منها لذاك العدو الغاصب ولا أظن أحداً من البشر يخالف في هذه الحقيقة.

فإذا كان احتلال الأرض واعتداء العدو على أمة أو شعب ما لا يستأهل ولا يستلزم خيار الحرب فهذا يعني إسقاط هذا الخيار من خيارات وقاموس البشر، إذ لا واقع يستلزم اتخاذ خيار الحرب أكثر من هذه الحالة. والواقع أن الدول تتخذ خيار الحرب في شؤون أقل من ذلك بكثير، فأمريكا قد اتخذت محاربة الإرهاب أو الإسلام خياراً استراتيجياً لها فشنت حرب أفغانستان والعراق وقدمت العديد من الجنود الأمريكان قرباناً لتحقيق مصالحها واستيلائها على منابع النفط وطرق الغاز، وكذا فعلت روسيا والدول الأوروبية في الحرب العالمية الأولى والثانية، وفعلت أمريكا كذلك في تورطها في الحرب الكورية وفيتنام جرياً وراء مصالحها مما كبدها العديد من الخسائر البشرية والمادية.

ومن الجدير ذكره أن إعلان السلام كخيار استراتيجي لا رجعة عنه في ظل تفاقم "الصراع" على قضية ما وهي في هذا المقام قضية فلسطين يعد استسلاماً واضحاً للعدو، فلا معنى لإعلانك السلام خياراً مع عدو يشن عليك هجوماً كاسحاً في ميادين شتى سوى أنك تستسلم له استسلاماً مطلقاً بل مهيناً ذليلاً.

ولقد اتخذ الحكام العرب خيار السلام خياراً استراتيجياً لهم عام 1996 في قمتهم التي التأمت في القاهرة، وكرسوا هذا الخيار الاستسلامي وتوجوه بما بات يعرف بالمبادرة العربية للسلام والتي أقرها الحكام العرب في قمتهم ببيروت في عام 2002، وهي في حقيقتها ليست سوى مبادرة أمريكية كتبها الأمريكي توماس فريدمان وتبناها وسوقها ملك السعودية الراهن عبد الله، مما يعطي انطباعاً واضحاً أن اتخاذ خيار السلام خياراً استراتيجياً لم يكن بقرار عربي سيادي بل بإملاءات أمريكية واضحة.

وفي ظل غياب اتخاذ الخيار المناسب في قضية فلسطين ظهرت خيارات المقاومة أو المقاومة السلمية، وبعيداً عن الخوض في تفصيلات هذه الخيارات الشائكة وملابساتها المعقدة إلا أنه لا يسعني القول في هذه الخيارات إلا أنها خيارات حركات أو أفراد لا ترقى لأن تكون خيار أمة أو شعب.

أما ما تسمى بالممانعة التي اتصفت بها بعض الدول فهي أكذوبة انتحلتها دول اقتضى دورها السياسي اتصافها بها، وإلا فهي في عدم اتخاذ خيار الحرب مع ما تسمى بدول الموالاة سواء بل إنها لا تخالف بقية الدول في إقرارها أن السلام خيار استراتيجي وهي تلهث وراء السلام المزعوم كبقية الأنظمة دون تفريق سوى في القشور.

من ذلك كله يتضح لنا أن لا خيار للدول والشعوب والأمم الحية تجاه قضاياها المصيرية سوى خيار الحرب لا غير، وأن اتخاذ خيار السلام يعد تنازلاً وتفريطاً بقضايا الأمة ومصالحها الحيوية، وهذا ينطبق على جميع الشعوب والأمم ولقد مارسته الدول على اختلاف هوياتها ممارسة عملية على مر العصور.

ولقد ضرب قادة الأمة الإسلامية عبر الخلافة على مدى ألف وأربعمائة عام أروع الأمثلة وأوضحها وأثبتها تمسكاً بقضايا الأمة ومصالحها الحيوية، منذ عهد الراشدين إلى أن هدمت الخلافة، فذاك الصديق أبو بكر في حرب الردة، وذاك الفاروق وذاك هارون الرشيد والمعتصم وصلاح الدين والظاهر بيبرس وقطز وطارق بن زياد ومحمد الفاتح وعبد الحميد، فقد كانوا جميعاً مصابيح دجى وعلامات بها الحكام والبشر يهتدون.

لكن خلف من بعد هؤلاء خلف أضاعوا قضايا الأمة وفرطوا بمقدساتها وضربوا للعالم أسوأ مثال في التفريط والخيانة والتآمر على قضايا أمتهم ومقدساتها وحقوقها، فكانوا أسوأ خلف لخير سلف ولسوف يلقون غياً.

إن على الأمة الإسلامية اليوم أن تتخذ إجراء الحياة أو الموت تجاه قضاياها المصيرية، وأن تتحرك لنصرة فلسطين فتتحرك عاجلاً دون أن تسمح لأي عائق مهما كان أن يقف في وجه تحركها فتقتلع أنظمة الضرار وتنصب عليها خليفة يقودها إلى ساحات الوغى ليعيد الحق إلى نصابه فتستعيد الأمة كرامتها المسلوبة وعزها المفقود وتضحي في سبيل قضاياها، فتحرر فلسطين وتطهر المسجد الأقصى من رجس يهود وتحرر كل شبر محتل من بلاد المسلمين وتحمل الإسلام وتتخذ من نشره للعالم رسالة هداية خياراً استراتيجياً لها، وليكن شعارها في ذلك كله قول الرسول الأكرم (فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يُظهره الله أو تنفرد هذه السالفة).

بريجنسكي وأوهام السلام!

لازالت قضية الشرق الأوسط تشغل حيزاً كبيراً لدى الساسة والمفكرين وراسمي السياسة الأمريكية، لما تمثله هذه القضية من محور هام من محاور الصراع الحضاري القائم بين المسلمين الذين لا حول لهم ولا قوة -في الوقت الراهن- وبين القوى الغربية الرأسمالية الاستعمارية.

ففي مقال له نشرته صحيفة واشنطن بوست ونشرته وكالات عدة قال زبغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر إنه لتحقيق السلام في الشرق الأوسط لا بد للرئيس الأميركي باراك أوباما من القيام بزيارة تاريخية جريئة للمنطقة مصطحبا معه القادة العرب إلى الكنيست في القدس والمجلس التشريعي في رام الله.

وأوضح أن استمرار احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية الفلسطينية واستمرار محاصرتها وعزلها لقطاع غزة الفلسطيني من شأنه أن يزيد من غضب المسلمين وامتعاضهم إزاء السياسات الخارجية الأميركية، وبالتالي وضع العراقيل أمام إمكانية إدارة أوباما لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية في المنطقة.

واعتبر بريجنسكي "السلام" مهما "لإسرائيل" نفسها حيث صرح وزير دفاعها إيهود باراك قبل فترة بأن غياب حل الدولتين من شأنه تشكيل التهديد الأكبر لمستقبل "إسرائيل" واعتبره أعظم من التهديد الذي قد تشكله قنبلة نووية إيرانية.

وأما بشأن المحاور الأساسية لأي مبادرة سلام أميركية مقترحة في المنطقة، فيرى بريجنسكي في مقاله المشترك مع عضو الكونغرس الأمريكي السابق عن ولاية نيويورك ستيفن سولارز، أنها باتت معروفة للجميع وأنها تتمثل في إيجاد حل لقضية اللاجئين من خلال التعويض أو إعادة التوطين في أراضي الدولة الفلسطينية وليس في "إسرائيل"، مضيفين أن هذه الوصفة قد تكون مرة بالنسبة للفلسطينيين ولكنهما لا يتوقعان من "إسرائيل" أن تقدم على الانتحار من أجل "السلام".

وأما المحور الثاني في المبادرة بحسب الكاتبين فيتمثل في التشارك بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" في القدس بوصفها عاصمة لكل من الدولتين مع بعض الترتيبات الدولية بشأن مدينة القدس القديمة، وذلك أيضا يشكل جرعة مرة بالنسبة "للإسرائيليين" لأنه يعني أن تكون القدس الشرقية عاصمة لفلسطين.

كما يجري الاتفاق بشأن المستوطنات الكبرى الواقعة في حدود 1967 بحيث يتم دمجها ضمن الدولة "الإسرائيلية" عبر اتفاق لتبادل الأراضي.

ويتم نشر قوات أميركية أو قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) على طول نهر الأردن في الدولة الفلسطينية من أجل توفير الحماية الأمنية القصوى لدولة "إسرائيل".

ويمضي الكاتبان إلى القول إن أوباما إذا قام باصطحاب القادة العرب وأعضاء اللجنة الرباعية إلى القدس ورام الله فإنه سيحقق نصرا سياسيا ويضرب مثلا على حسن وقوة القيادة التي استطاعت وضع حد للصراع الطويل في المنطقة.



وإذا ما رفض أحد الطرفين أو كليهما مبادرة السلام الأميركية فيرى بريجينسكي وسولارز ضرورة قيام الولايات المتحدة باللجوء إلى مجلس الأمن الدولي من أجل توفير ضغط دولي أوسع لإجبار الطرفين على قبول المبادرة وتطبيق بنودها بكل الوسائل الممكنة.

ونحن إذ نقف ملياً على مقال بريجنسكي بوصفه أحد موجهي وراسمي السياسة الأمريكية نتناول الموضوع من زوايا عدة:

أولاً: إن أمريكا تتعامل مع ما بات يعرف بقضية الشرق الأوسط باعتبارها عقدة وعقبة أمام مخططاتها السياسية والعسكرية في المنطقة، لا باعتبارها قضية شعب مسكين تكالبت عليه القوى الكبرى وسلبته أرضه وألقمتها ليهود، كما يحاول بعض الحكام أو بعض وسائل الإعلام من تصوير المساعي الأمريكية الحثيثة الرامية لإيجاد حل لهذه القضية. وقد تكرر التعبير عن هذا التوجه للإدارات الأمريكية المتلاحقة ولم يكن آخرها تصريحات الجنرال ديفيد بترايوس في شهادة له أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.

ثانياً: إن المساعي الأمريكية تقوم على ركيزة لم تعد سراً أو خافية على أحد، وهي حفظ أمن كيان يهود، وهذا ما عبر عنه بريجنسكي بالقول إن غياب حل الدولتين يشكل تهديداً "لإسرائيل" أكثر من تهديد القنبلة النووية الإيرانية، وهو ما دفع بريجنسكي كذلك للاقتراح بأن ترابط على حدود الدولة الفلسطينية "العتيدة" قوات أمريكية أو من حلف الناتو لتضمن أمن وسلامة "إسرائيل".

ثالثاً: تخشى الإدارة الأمريكية من دوام استمرار الصراع في المنطقة لما تمثله قضية فلسطين من فتيل مستمر لإشعال حروب في المنطقة تخشى أمريكا أن تأخذ طابعاً دينياً فتتحرك الأمة الإسلامية كأمة وتقف موحدة في وجه السياسات والمخططات الأمريكية مما ينذر بفشل أمريكا وبداية انحسار نفوذها لا في المنطقة فحسب بل في العالم وبداية تقهقرها وعودتها إلى عزلتها.

رابعاً: لا يمثل الحكام العرب في نظر راسمي السياسة الأمريكية سوى كورس ممثلين لا يملكون من أمرهم من قطمير، لذا يلاحظ على اقتراح بريجنسكي على أوباما أن يصطحب الحكام العرب في زيارة له للكنيست كما يصطحب السلطان حاشيته، من غير أن يذكر أن هذا الأمر يمكن أن يلاقي رفضاً من الحكام أو اعتراضاً أو حتى مجرد امتعاض، فهؤلاء وفق النظرة الأمريكية لا قرار ولا شان لهم فهم مجرد تبع لأمريكا.

خامساً: أما عن حيثيات المبادرة الأمريكية التي يقترحها بريجنسكي على أوباما فهي كما يقول بريجنسكي باتت معروفة، والتي يمثل حل قضية اللاجئين بالتعويض أو إعادة جزء منهم إلى داخل الدولة الفلسطينية "العتيدة" أبرز ما فيها، وهي سياسة أمريكية عبر عنها رئيس وزراء السلطة سلام فياض في تصريحات سابقة لصحيفة "إسرائيلية"، كما يدعو بريجنسكي إلى اقتسام القدس مع ما يرى فيه من المرارة ليهود ولكن ذلك يمثل بلسماً لمرض عضال، ويدعو إلى تسوية موضوع المستوطنات الكبيرة في الضفة الغربية عبر تبادل الأراضي بين "إسرائيل" والدولة الفلسطينية "العتيدة"، وهذه المقترحات لا تخرج عما هو متبع في السياسة الأمريكية الراهنة والتي تصطدم بحائط مهول يتمثل في رفض اليهود لها وفي عدم شرعية وبالتالي عدم امتداد جذور السلطة لتمثل المسلمين الذين يرتبطون بفلسطين وبالقدس على وجه الخصوص ارتباطاً عقائدياً.

سادساً: في أي مبادرة أو مخطط أمريكي للمنطقة، وعن معنى الدولة الفلسطينية التي ينص عليها حل الدولتين، لا ترى الإدارات الأمريكية وراسمي سياساتها في الدولة الفلسطينية سوى كيان هزيل يقوم بدور وظيفي يتمثل في حماية أمن الاحتلال، ولا يملك ذلك الكيان سيادة حقيقية ولعل اقتراح بريجنسكي بأن تقوم قوات أمريكية أو من حلف الناتو بالمرابطة على حدود الدولة الفلسطينية "العتيدة" لحفظ الحماية الأمنية القصوى "لإسرائيل" يعطي انطباعاً واضحاً عن الدولة التي يتحدث عنها الأمريكان.

سابعاً: لا يغيب عن الساسة الأمريكان أن "إسرائيل" بعقلية اليهود والطبقة السياسية الحاكمة فيها تمثل عقبة أمام المخططات الأمريكية، لكنهم يرون فيها كالطفل المدلل الذي لا يدرك حقيقة مصلحته فيسير وراء رغباته دون أن يحكم العقل والمنطق، يقول بريجنسكي " إن المعادلة الإسرائيلية غير عقلانية وغير منطقية، ذلك لأن السلام الشامل هو أمر حيوي ويعد من صالح جميع الأطراف، الإسرائيليين والفلسطينيين والأميركيين على حد سواء." وهذا التفكير هو الذي يفقد الإدارات الأمريكية المتلاحقة لأداة الضغط الحقيقية لتنفيذ مخططاتها في المنطقة وهو الذي دعا بريجنسكي ليقترح كحال سابقيه أنه في حال رفض أحد الأطراف –وهم اليهود- لهذه المقترحات فعلى الإدارة الأمريكية اللجوء لمجلس الأمن لإلزامه بالأمر، أي أن هذا الاقتراح يعيد القضية إلى حيث بدأت ويفقد المخطط الأمريكي أية ورقة ضغط حقيقية لتنفيذه.

ثامناً: في تجريد مخل لا يذكر بريجنسكي أو يتعمد إغفال استحالة تحقق السلام المزعوم إذ أنه يغفل الارتباط العقائدي الذي يربط المسلمين جميعاً في كافة أقطار المعمورة بأرض فلسطين بقدسها وبحيفا ويافا وتل الربيع وكل شبر محتل منها، وأن تحقيق السلام ليس قضية صراع بين بريطانيا والأرجنتين على جزر الفوكلاند بل هي قضية صراع مبادئ وصراع عقائدي مستحكم ومستفحل بل قضية صراع حق وباطل لا تلاقي أو توسط بينهما، مما ينبأ باستحالة تحقيق "السلام!" الذي تنشده أمريكا.

إن فلسطين واحتلال بيت المقدس كانا عبر التاريخ عاملاً محفزاً للأمة لتلم شعثها وتوحد كلمتها وتعقد عزيمتها فتأخذ زمام أمرها، فتحررها وتعود إلى طليعة الأمم، وهذا الذي يخشاها بريجنسكي والساسة الأمريكان من دوام اشتعال فتيل هذه القضية مما دعاهم للتفكير ملياً لمحاولة إطفاء هذه الجذوة بأي وسيلة كانت.

فهل أدرك أهل فلسطين ما يمثلونه في حلبة الصراع الدائر فينفضوا عن كل المشاريع الغربية ويرفضوا كل المخططات الأمريكية التي ترمي لإحكام السيطرة على الأمة الإسلامية كاملة؟

وهل أدركت الأمة الإسلامية مدى ما تمثله من هاجس يؤرق القوى الغربية الاستعمارية وأدركت أنها إن تحركت تحركاً حقيقياً جاداً للتغيير بأن بمقدورها أن تقلب موازين القوى الدولية لا أن تستعيد حقوقها المسلوبة أو تحرر أرضها وتستعيد كرامتها فحسب بل وتنقذ البشرية من ضنك الرأسمالية الذي تحياه!

السياسة الأمريكية وكابوس الشرق الأوسط

من يتابع تطورات الأوضاع في المنطقة يدرك أن ملف النزاع في الشرق الأوسط بات يشكل كابوساً يقض مضاجع الإدارات الأمريكية المتلاحقة.

فلقد باتت قضية الشرق الأوسط مفتاحاً لفشل المخططات الأمريكية في المنطقة بأسرها، وعاملاً مهماً من عوامل التأثير السلبي على مختلف ملفات وقضايا المنطقة، وهو ما دعا كل من بيكر-هاملتون إلى التوصية بضرورة حل قضية الشرق الأوسط وإحياء دور الولايات المتحدة في تحريك ما يعرف بعملية السلام وضرورة إفاقة الولايات المتحدة من غيبوبتها في هذا الشأن، لما يلحقه ملف الشرق الأوسط من أضرار فادحة بكل من قضايا العراق وأفغانستان. وهو ما دعا الجنرال ديفد بتراوس قائد القيادة الأمريكية الوسطى إلى القول في لجنة استماع لشهادته في مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً "أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يقوض المصالح الأميركية في الشرق الأوسط"، وهو ما دعا بايدن كذلك إلى القول ليهود إن سياستهم تعرض حياة الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان للخطر.

وبرغم أن قضية فلسطين واحتلالها، وإقامة كيان يهودي على أراضيها المغتصبة، كان من أهم أهدافه هو حرف الصراع عن حقيقته وجادته ليتحول من صراع حضاري بين المسلمين من جهة وبين القوى الغربية الاستعمارية بما فيها قاعدتهم العسكرية المتقدمة "كيان يهود" من جهة أخرى، إلى صراع "إسرائيلي" فلسطيني، ومجرد صراع حدودي، وإلى مجرد قضايا مجتزأة كقضايا اللاجئين والحدود والمياه وغير ذلك، ولكي تكون قضية فلسطين مشغلة للأمة عن قضاياها المصيرية التي خلفت احتلال فلسطين وضياع الأمة الإسلامية وسط الأمم،
برغم ذلك كله إلا أن هذه القضية باتت محركاً رئيسياً للمسلمين ينبههم إلى وحدة قضاياهم ويدعوهم إلى التفكر والتدبر لكيفية الخلاص مما يرزحون تحته من احتلال وتبعية سياسية، فباتت قضية فلسطين عاملاً يذكر الأمة بقضيتها المصيرية وبوجودها كأمة، وتستحثها للعمل الحقيقي للتغيير الشامل والجذري، لا مجرد قضية إقليمية ضيقة أو وطنية محلية.

وهذا الخروج بقضية فلسطين عن السياق الذي حدّته لها القوى الغربية الاستعمارية يدفع تلك القوى وأتباعهم من الحكام الذين يدينون لهم بالطاعة والولاء إلى التخوف الدائم والمستمر من اشتعال فتيل حرب دينية، أي إلى عودة القضية الفلسطينية إلى سالف عهدها قضية تخص الأمة الإسلامية بأسرها ويتحرك لها المسلمون في شتى أصقاع المعمورة، لا أن تبقى هذه القضية ألعوبة وألهية بيد حفنة زعمت تمثيل أهل فلسطين فتاجرت في هذه الأرض المقدسة كما تتاجر في أي سلعة حقيرة.

نعم هذا الذي تخشاه أمريكا ودول الإتحاد الأوروبي وتخشاه الأنظمة الجاثمة على صدر الأمة، وهذا الذي يقلقهم من تصرفات يهود في القدس وفلسطين، لا حرصهم على فلسطين ولا غيرة على مقدساتها.

لكن يهود قد ضربوا بهذه التخوفات عرض الحائط وأصروا على تصرفاتهم وسياساتهم الاستفزازية، فهم من جانب يسعون لاستغلال الضعف السياسي الذي يعتري الإدارة الأمريكية الحالية وانشغالها في الانتخابات النصفية للكونغرس وبقضايا أكثر إلحاحاً كما سبق أن عبر عن ذلك تقرير صادر عن وزارة الخارجية "الإسرائيلية"، فتريد "إسرائيل" أن تفرض تصوراتها كوقائع جارية. وأمريكا تسعى من جانب آخر إلى ضبط الأوضاع وبقاء إمساكها بزمام المبادرة في هذا الملف الحرج ولجم كيان يهود لكي لا يعطل عليها أهدافها ومصالحها في المنطقة بسبب تعنته وعلوه واستكباره، لتتفرغ هي لقضاياها الأكثر أهمية.

لكن أمريكا، ولا سيما في عهد الإدارة الأمريكية الحالية، تتسم بالضعف الشديد الذي يمنعها عن ممارسة أي ضغط يذكر على كيان يهود، يمنعها من ذلك مشاكل هذه الإدارة الداخلية وقوة اللوبي اليهودي هناك وقرب حلول انتخابات الكونغرس النصفية. مما ينبأ أن هذا الكيان المغتصب ماض في علوه واستكباره، وماض في اعتداءاته على أهل فلسطين ومقدساتهم، وماض في سعيه لتغيير الوقائع الجارية.
إن القوى الغربية الاستعمارية تخشى من أن تؤدي تصرفات يهود في القدس وفلسطين إلى تحرك إسلامي يصطدم بحائط الأنظمة العميلة لها فيطيح بها ويقلب الأوضاع على غير ما تشتهيه، وهو ما عبر عنه ديفد بتراوس بقوله "إن الغضب العربي بسبب القضية الفلسطينية يحد من قوة وعمق الشراكات الأميركية مع الحكومات والشعوب في المنطقة ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي".

إن على الأمة إن هي أرادت أن تحرر فلسطين أن تغذي السير لاقتلاع أنظمة الجور التي وطدت أركان كيان يهود في فلسطين وحمته ورعته كما يرعى الأب ابنه، وتمسكت بما يسمى بالمفاوضات والسلام كخيار استراتيجي ووحيد، كما على الحركات العاملة فيها أن تغير مفردات الخطاب الموالي للأنظمة والداعم لها، فبدون اقتلاع هذه الأنظمة والاستبدال بها كياناً يلم شعث الأمة ويوحد كلمتها فيزحف في جيش جرار نحو فلسطين فيحررها من رجس يهود، بدون ذلك ستبقى فلسطين ترزح تحت نير الاحتلال، فالطريق إلى القدس لمن فقد البوصلة يكون من قاهرة المعز ومن الأردن وسوريا ولبنان بل ومن طهران وإسلام أباد واسطنبول.

الخلافة: واقع مرتقب وتخوفات غربية

لم يكن هدم الخلافة الذي يوافق الثالث من آذار لعام 1924 بالتأريخ الميلادي، نتيجة مغامرة سياسية أو محاولة عابرة أو سياسة ارتجالية مارستها القوى الغربية الاستعمارية، بل كان هدمها ثمرة جهود مضنية وعقود بل قرون من الكيد والتآمر والتخطيط من تلك القوى، والتي انتهجت طرقاً مختلفة وتوسلت إلى تحقيق هذه النتيجة بوسائل شتى، فهدم الخلافة كان ولا زال الإنجاز الأول والأهم الذي استطاع الغرب تحقيقه في صراعه مع الحضارة الإسلامية منذ بزوغ فجرها وإقامة دولتها الأولى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة إلى يومنا هذا.

لذا كان من الطبيعي ومن المتوقع أن تحيط القوى الغربية الاستعمارية هذا الإنجاز بهالة من الأسباب والظروف والمخططات تسعى من خلالها للمحافظة عليه، وتلك الأسباب والظروف والمخططات هي بلا شك عوائق حقيقية في وجه استعادة الخلافة من جديد.

ومن أدرك نظرة القوى الغربية الاستعمارية للخلافة في تاريخها وفي مستقبلها المرتقب يدرك حجم الاهتمام الذي تبديه هذه القوى في سبيل إعاقة عودة الخلافة من جديد.

يقول الدكتور رفيق حبيب وهو كاتب مصري قبطي في مقال له (بالنسبة للدول الغربية، تمثل فكرة استعادة الدولة الإسلامية الموحدة، مشروعا لبناء كيان دولة عظمى. وهو ما يعني ضمنا تحدي الدول الغربية وأمريكا، بوصفها القوى العظمى في عالم اليوم. ولا يمكن أن يستمر الغرب في تفوقه على مختلف دول العالم، إذا تم بناء دولة الوحدة الإسلامية والتي سوف تقع على الحدود الجنوبية للغرب، وتفصل الغرب عن بقية دول العالم، وتحتل منطقة قلب العالم. فإذا قامت دولة للوحدة الإسلامية، لن يستمر الغرب كقوة عظمى. والأهم من ذلك، أن دور الحضارة الغربية بوصفها الحضارة المتقدمة والمهيمنة على العالم، سوف ينتهي.

إن حلم العولمة، وهو حلم هيمنة الليبرالية الغربية على العالم، سوف ينتهي إذا قامت دولة إسلامية موحدة، لأنها سوف تجعل الحضارة الإسلامية مهيمنة على جزء مهم من العالم، وبهذا تقوم حضارة أخرى تنافس الحضارة الغربية، وتقف كحائط صد يمنع هيمنة الحضارة الغربية على العالم.

وحلم دولة الوحدة الإسلامية، يعيد للغرب تاريخه مع الدولة الإسلامية في مراحلها المختلفة. فلم يستطع الغرب تحقيق هيمنته وسيادته العالمية، إلا بسقوط دولة الخلافة الإسلامية، والتي مثلت آخر تحد حضاري عالمي للدول الغربية.) انتهى كلام حبيب

ولتحقيق ذلك انتهجت القوى الغربية الاستعمارية العديد من الطرق والأساليب للحيلولة دون عودة الخلافة ومحاربة فكرتها، نذكر منها فصولاً تشتمل على أعمال وتصرفات عديدة، نذكرها على سبيل المثال لا الحصر:

1. التضليل الفكري وتمثل ذلك في إدخال الأفكار الغربية على الأمة الإسلامية بثوب الإسلام، من خلال مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، والأحزاب الموالية للغرب والتي تحمل أفكاره وتروج لها، ومن خلال الكتّاب ولوثات علماء السلاطين.

2. التضليل الإعلامي والطوق المحكم الذي ضربته تلك القوى على فكرة ومشروع الخلافة وكل ما يتصل به من أحداث ونشاطات وأفكار.

3. التضليل السياسي الذي كرس التبعية للغرب كسياسة عامة في كافة بلدان العالم الإسلامي مما زاد من عبودية تلك الأنظمة للغرب وقلل من احتمالية انعتاقها من ربقة الاستعمار.

4. وآخر سهم في كنانة تلك القوى هو تسخير ما بات يعرف بحركات الإسلام المعتدل، والتي تسعى من خلالها إلى إيجاد نماذج حكم تسمى إسلامية وتوالي الغرب فتجهض مشروع الخلافة عبر تصويره للأمة كتلك النماذج التي سرعان ما ستكتشف الأمة عقمها وتبعيتها وبعدها عن مبدأ الإسلام.

تلك هي العوائق وتلك هي مخططات القوى الغربية الاستعمارية ومكرها، ولكن قوة مبدأ الإسلام الفكرية، ورسوخه في أعماق المسلمين، ووجود طليعة من الأمة حملت مشروعها الحضاري المتمثل بالخلافة، قد عجل من إفاقة الأمة الإسلامية من التخدير الذي اعتراها وحالة التيه التي شهدتها، مما دعا الأمة من جديد أن تلتف حول مشروع الخلافة ليصبح أملها المنشود للخلاص مما حل بها، وبوابة للفجر القادم، فالعاملون للخلافة اليوم باتوا منتشرين في أصقاع العالم وباتت دعوة الخلافة تلاقي قبولاً واسعاً منقطع النظير في آسيا الوسطى في أوزبكستان وقرغيزستان وطاجكستان بل وفي روسيا وأوكرانيا، وفي أندونيسيا وماليزيا، وفي شبه القارة الهندية في باكستان وفي أفغانستان وبنغلادش وفي الهند وفي بلاد الشام وفي بقية البلدان العربية، وفي الجاليات الإسلامية في بريطانيا وأمريكا والدنمرك وهولندا والدول الاسكندينافية وفي أفريقيا في تنزانيا وكينيا وشمال أفريقيا، وفي استراليا وفي غيرها.

لقد جابت دعوة الخلافة العالم وباتت الأمل المنشود للمسلمين جميعاً ولم تعد عودة الخلافة أمراً وهمياً أو خيالياً بل أمراً واقعياً قابلاً للتحقق في كل وقت بل إنه هو المستقبل المرتقب الذي يتطلع إليه المسلمون وتخشاه القوى الغربية الاستعمارية.

ونحن إذ نؤكد حقيقة دنو الخلافة لا نبالغ ولا نزيد عن وصف الواقع الذي تحياه الأمة، وللدلالة على ذلك نذكر جملة من توقعات الغرب وتخوفاته حيال قيام الخلافة، ونقف قليلاً على ما تعيشه الأمة، ولا يفوتنا الاسترشاد بالنصوص الشرعية التي تبشر بدنو عودة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.

أما توقعات الغرب وتخوفاته فقد كثرت واطردت في الآونة الأخيرة، منذ عهد بوش الابن إلى يومنا هذا، ولن نكرر ذكر تصريحات بوش التي تخوف فيها من قيام خلافة من إندونيسيا إلى إسبانيا ولا تصريحات بلير أو ساركوزي أو حتى تصريحات كلارك، ولكننا نقف على ما صدر حديثاً من تصريحات تعكس مدى خوف القوى الغربية الاستعمارية من عودة الخلافة مما دعاها إلى إشعال فتيل الحروب في المنطقة لعرقلة عودتها، ولكنّ أنى لهؤلاء أن يقفوا في وجه فكرة قد آن أوانها وفي وجه مشروع بات تحققه قدراً مقدوراً، ولعل أبرز تلك التصريحات هي تصريحات جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي بشأن باكستان حيث قال "أنَّ أكثر ما يقلقه ليس أفغانستان ولا العراق ولا أزمة الملف النووي الإيراني، بل باكستان"؟ مضيفاً: "أعتقد أنَّه بلد كبير، ولديه أسلحة نووية يمكن نشرها، وفيه أقلية مهمة فعلاً من السكان المتطرفين". جاءت تصريحاته هذه وسط تخوفات كثيرة صدرت عن العديد من المسئولين والخبراء التي تحذر من أن تكون باكستان نقطة ارتكاز للخلافة القادمة. ففي الرابع والعشرين من تشرين الثاني 2009 صرح الميجر جنرال جون م. كستر، قائد مركز مخابرات الجيش في فورت هواتشوكا في أريزونا صرح لصحيفة واشنطن تايمز قائلا "إنّ القادة العسكريين القدماء يحبوننا، فهم يفهمون الثقافة الأمريكية، ويعلمون بأنّنا لسنا الأعداء، ولكنهم خارج القوات المسلحة مجددا." وقد ورد تصريح أخر على صفحات واشنطن بوست في آذار 2009 لديفيد كيلكولن، مستشار قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال ديفيد بتريوس في حرب أميركا قال: "في باكستان 173 مليون نسمة، و100 رأس نووي، وجيش أكبر من الجيش الأمريكي... وقد وصلنا إلى مرحلة حيث يمكن رؤية انهيار النظام الباكستاني خلال ستة شهور... إنّ إطاحة المتشددين بالنظام سيدمر كل الذي نراه في الحرب على الإرهاب اليوم." وفي الثاني من كانون الأول 2009 ومن على شاشة محطة جيو الباكستانية أعربت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عن قلقها من العمل للخلافة في باكستان.

بل إن التعامل مع الخلافة قد بدا على لسان الخبراء والكتاب الغربيين كحقيقة قائمة مما دعا الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي المشهور جون شيا أن يوجه رسالة للرئيس الأمريكي يطالبه بفتح مصالحة مع ما أسماها بالخلافة الخامسة التي لن تستطع القوات الأمريكية الوقوف بوجهها أو مجابهتها. جاء في رسالة شيا التي كانت بعنوان(حتمية المصالحة مع دولة الخلافة الخامسة): "الحقيقة الجليَّة هي أنَّه لا يستطيع أي جيش في العالم، ولا أيَّة قوَّة عسكريَّة - مهما بلغت درجة تسليحها - أن تهزم فكرة.

يجب أن نقرَّ بأنَّنا لا نستطيع أن نحرق قادة هذه الفِكْرة في كلّ بلاد الشَّرق الأوسط، ولا أن نحرق كتُبَها، أو ننشر أسرارها؛ ذلك لأنَّ هناك إجماعًا بين المسلمين على هذه الفكرة.

إنَّ الشرق الأوسط يواجه اليوم القوَّة الاقتصاديَّة الموحَّدة للدُّول الأوربيَّة، هذا صحيح، لكن عليْنا أن نعرِف أنَّه في الغد سيواجه الغرب القوَّة الموحَّدة لدولة الخلافة الخامسة."

وهذه التصريحات خرجت للعلن وبات التوجس من الخلافة المرتقبة ظاهراً وماثلاً للعيان-برغم وجوده عبر العقود المنصرمة- بسبب تحسبهم وتوقعهم أن تقوم الخلافة بين لحظة وأخرى ومنهم من توقع عودتها حتى عام 2020 كتقرير (رسم خريطة المستقبل العالمي) الصادر عن المجلس الوطني للاستخبارات في ولاية فيرجينيا التابعة لوكالة الاستخبارات الأمريكية C.I.A، وكنائب رئيس مجلس الدوما السابق ميخائيل يورييف.

وهذه التصريحات ليست الشاهد الوحيد على ما نؤكده من دنو الخلافة بل إن الواقع الذي تحياه الأمة يدل على ذلك أتم الدلالة والوضوح، فالأمة الإسلامية اليوم باتت تتطلع للخلافة وللوحدة الإسلامية ولتطبيق الشريعة في كافة مناحي الحياة، وبات تمسك الأمة بالإسلام اليوم أكثر من أي وقت مضى، وباتت الأمة على أتم استعداد لتقديم التضحية تلو الأخرى في سبيل دينها، يدفعها إلى ذلك ترسخ مفاهيم العقيدة لديها، وإدراكها الحسي أن لا خلاص لها مما هي فيه سوى بالعودة للإسلام عبر إقامة دولته، وبات شعار "إن هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله" مفهوماً عملياً مجسداً لدى الأمة بأسرها، كما أن الحكام الجاثمين على صدرها قد بانت سوءاتهم في وضح النهار، وباتوا يناصبون الأمة ومشروعها الحضاري العداء علانية فهم شركاء أمريكا والغرب في الحرب على الإسلام، بل إن القوى الغربية قد انكشفت سوءاتها كذلك فبانت هشاشة جيوشها وقوتها العسكرية برغم امتلاكها لأعتى آلة عسكرية، فحلف شمال الأطلسي في أفغانستان يعيش كابوساً يؤرق مضجعه من قبل ثلة من المسلمين لا من قبل جيش وأمة، بل إن من جيوش ذاك الحلف من دفع الإتاوات ليحتمي من هجمات المجاهدين في أفغانستان.

هذا الواقع الذي تعيشه الأمة بكل خيوطه يؤكد على أن الأمة باتت مهيأة لتحتضن دولة الخلافة القادمة قريباً بإذن الله، فالخلافة في نظر الأمة باتت واقعاً مرتقباً لا حلماً ولا أمنية.

يعزز من هذا التوجه لدى الأمة الإسلامية آيات من كتاب الله وأحاديث شريفة تبشر الأمة بالنصر والظفر والظهور والاستخلاف والتمكين في الأرض وتبشر الكافرين بفشل مساعيهم وأنها إلى بوار في الدنيا وعقاب وعذاب ونار في الآخرة.

فكيف لأمة أن لا تتطلع لعودة الخلافة صباح مساء وهي تقرأ قول الحق جل في علاه:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وقوله:( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، وأنى لأمة أن لا تتطلع لقيادة العالم وهي تسمع حديث الرسول الأكرم بعد أن أخبر عن مرحلة الملك الجبري الذي نحياه بقوله: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، وهي تقرأ قوله كذلك (أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية، قال مدينة هرقل تفتح أولاً) ثم هي تترقب أن يسود الإسلام الأرض في ظل الخلافة لا يترك بيت وبر ولا حضر، قال عليه السلام (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). وغير ذلك من الآيات والأحاديث الشريفة التي تبين خيرية الأمة الإسلامية وأن العاقبة والظهور لها ولدينها.

إن مشروع الخلافة قد اجتاز كل المعوقات والحواجز، فالخلافة اليوم يكاد أن يبزغ فجرها مع كل صباح يلوح، فهي-بإذن الله- أقرب من طرف العين، وكل ما يصور للأمة من بعد الخلافة وعدم إمكانية قيامها من جديد ليس سوى حرب إعلامية استباقية لن تضر الأمة إلاّ أذى. فما على الأمة إلا أن تغذي الخطى نحو العلا قدماً لتحرر نفسها وتقيم حضارتها وتنقذ البشرية.

شراكة الحركات الإسلامية "المعتدلة" مع الأنظمة إلى أين؟


يبدو المشهد السياسي في العالم الإسلامي في ظل حكم الأنظمة الجاثمة على صدر الأمة والموالية لأعدائها مشهداً قاتماً، ويزيد من قتامته تحالف بعض التيارات الإسلامية مع هذه الأنظمة بصورة أو بأخرى.

فقد سعت بعض التيارات إلى مشاركة هذه الأنظمة عملها السياسي التآمري، بلعب دور المعارضة وفق الرؤية الغربية تارة، أو بولوج هذه الأنظمة لتصبح مكوناً رئيسياً منها. لكنها –وللأسف- كانت من حيث أدركت ذلك أم جهلت دعامة لهذه الأنظمة التي لن يكون للأمة منفذ لسبيل عزتها وعودتها خير أمة أخرجت للناس سوى بإزالتها.

فتجارب الحركات الإسلامية في بلدان عدّة في الانخراط في العملية السياسية أسفرت عن نتائج كارثيّة، بل إن المتابع لتلك التجارب يدرك أن هناك أصابع خفية ساقت تلك التيارات للانخراط في اللعبة التي تتحكم القوى الغربية بخيوطها، ويدرك كذلك أن تلك التيارات كانت بمثابة حقل تجارب لمراكز الأبحاث الغربية التي عكفت على دراسة ظاهرة المد الإسلامي المتنامي وكيفية التصدي له، وخلصت أن لا سبيل أمام الساسة الغربيين سوى استخدام ورقة ما بات يعرف بالإسلام "المعتدل" حتى يتم عرقلة مشروع الإسلام النهضوي الذي يقضي بالإنعتاق من التبعية السياسية والفكرية للغرب بل ويدعو إلى حمل الإسلام رسالة هدىً للعالمين.

ونحن إذ نتناول هذا الموضوع نقف عليه من زوايا ثلاث، الأولى ما هو موقف الغرب من شراكة الأنظمة مع التيارات الإسلامية "المعتدلة"، والثانية ما مدى النجاح الذي حققته هذه التيارات، ومن ثم نعرج على آثار هذه التجارب على مشروع الأمة النهضوي وما مدى إسهام هذه التجارب في خدمة أو عرقلة هذا المشروع.
أما موقف الغرب من شراكة الأنظمة مع التيارات الإسلامية "المعتدلة" فقد شهد تقلبات متعددة، أولها اعتماد سياسة ركوب الموجة في التعامل مع التيارات الإسلامية في سبعينات القرن الفائت وهي مما أوصى به الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون واستمرت تلك السياسة لعقود،

وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تبنت أمريكا سياسة الحرب على الإسلام تحت شعار الحرب على الإرهاب دون أن تفرق بين التيارات الإسلامية التي تصنفها "بالمعتدلة" أو "الأصولية"، فوضعت جميع التيارات الإسلامية في سلة واحدة،
لكن فشل سياستها وعدم قدرتها على تحقيق إنجازات تذكر على صعيد الأزمات التي فجرتها تحت مسمى الحرب على الإرهاب دفعها لإعادة التفكير في تلك السياسة مما دعاها إلى العدول عن حربها الشعواء الارتجالية الشمولية، فعمدت إلى التفريق مرة أخرى بين تيار حرصت عليه من قبل وغذته بأسباب الحياة في سبيل وقوفه في وجه تيارات "الأصولية" التي تعادي الحكومات الغربية ولا تسير ضمن مشاريعها،

وللدلالة على ذلك فلقد أصدرت مؤسسة رند -وهي إحدى مؤسسات Think Tanks ذات التأثير الكبير على توجه الطبقة السياسية الحاكمة في أمريكا- تقريراً عام 2008 يدعو إلى بناء شبكات إسلامية معتدلة لتقف في وجه من صنفتهم بالأصوليين والذين وصفهم الباحثون بأنهم قويو الحجة والبرهان، ودعا التقرير إلى " أن يكون بناء شبكات إسلامية معتدلة هدفا معلنا وصريحا في برنامج الحكومة الأميركية" واعتبر "أن بناء شبكات الاعتدال الإسلامي يمكن أن يجري على ثلاثة وجوه رئيسية:
• أولا: دعم مؤسسات هي أصلا موجودة.
• ثانيا: ضبط شبكات معينة ذات أولوية والعمل على بعثها ورعايتها.
• ثالثا: المشاركة في إشاعة ثقافة التعدد والتسامح، التي تعد شرطا لازما لتطور مثل هذه المؤسسات.

وللتأكيد على هذا التوجه وأهميته رأى التقرير "أن الخطوة الأولى التي يجب قطعها تتمثل في اتخاذ قرار حاسم من طرف الإدارة الأميركية وحلفائها ببناء شبكة الاعتدال في العالم الإسلامي، وربط تحقيق هذا الهدف الكبير بصورة واضحة وصريحة بالإستراتيجية، ومجمل البرامج الأميركية"، كما نص التقرير كذلك على "أن التنفيذ الجاد والناجع لمثل هذه الإستراتجية يتطلب وجود بنية هيكلية داخل الحكومة تسهر على توجيه ودعم ثم مراقبة ورصد الجهود المبذولة على هذا الصعيد، وهذا الأمر يتطلب بدوره صناعة الخبرات والقدرات اللازمة. ولتحقيق هذه الأهداف العامة فإننا نقترح ما يلي:
o وضع ميزان تقييمي تتم بموجبه غربلة المعتدلين الحقيقيين من الانتهازيين والمتطرفين الذين يتخفون خلف غلاف الاعتدال، فضلا عن تمييز العلمانيين الليبراليين عن العلمانيين التسلطيين.
o بناء قاعدة معلومات دولية تضم الشركاء المحتملين (تحتوي الأفراد والمجموعات والمنظمات، والمؤسسات والأحزاب).
o وضع آليات واضحة تسمح بمراقبة وتوجيه، ثم تطوير البرامج والمشاريع وتقييم القرارات المتخذة في هذا المضمار. ومن هنا تتأتى أهمية إيجاد عدسة رصد تسمح بدعم وتحسين أداء الشركاء الذين هم محل ثقة لدينا." انتهى الاقتباس

وتأكيداً على أهمية هذه السياسة وإعطائها الأولوية اللازمة نص التقرير على "إن مشروعنا البنائي والمؤسسي يجب أن يعطي الأولوية المطلقة لتلك المجموعات ذات التوجهات الأيديولوجية المقبولة لدينا، أي تلك التي تلتزم فعلا بما تعلنه من أطروحات الاعتدال. فهذه المجموعات هي التي يمكن التعويل عليها دون غيرها، باعتبارها شريكا جادا. من هنا يتوجب تمحيص التوجهات الأيديولوجية بشكل جيد، وعند الاطمئنان إلى سلامة التوجه يمكن أن تتاح للمجموعات العاملة دائرة أوسع من الاستقلالية والتسيير الذاتي، وهذا الأمر يستوجب بدوره مراجعة الإستراتيجية العامة المتبعة إلى حد الآن مع العالم الإسلامي."

ومن الشواهد على هذه السياسة تصريحات بعض السياسيين الغربيين. فقد كشفت وزيرةَ خارجيةِ أمريكا السابقة "كونداليزا رايس" عن "اقتناع الولايات المتحدة بأهميةِ التحاورِ مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة"، واعتبر ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأمريكية "إن الولاياتِ المتحدة لا تخشى وصولَ تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة لتحلَ محلَ الأنظمةِ القمعيةِ العربية التي تتسبب بتكميمها الأفواهَ في اندلاعِ أعمالِ الإرهاب، شريطةَ أن تصلَ عن طريقٍ ديمقراطي وأن تتبنى الديمقراطيةَ كوسيلةٍ للحكم".

من ذلك كله يتبين أن موقف الغرب ممثلاً بموقف أمريكا وكذا دول الإتحاد الأوروبي كان واضح اللهجة في قبول هذه الشراكة بل داعماً لها في كثير من الأحيان، وهو إن تبنى خطاباً مغايراً لذلك مع تيارات "الإسلام المعتدل" في بعض الأحيان فقد كان يرمي من ذلك إلى جر تلك التيارات لمزيد من الاندماج السياسي مع هذه الأنظمة، فهو يعتمد على نهج من يهن يسهل الهوان عليه، وهو يدرك أن قبول تلك التيارات بالديمقراطية وبقواعده التي يخطها لهذه اللعبة من شأنه أن يهوي بها في واد سحيق.

لذا نرى أن أمريكا حتى يومنا هذا تنتهج نفس الأسلوب والمنهاج في التعامل مع تلك التيارات، فأمريكا دعمت ولازالت تدعم حزب العدالة والتنمية في تركيا باعتباره رأس حربة لها يقف في وجه نفوذ الاستعمار القديم ممثلاً بالمؤسسة العسكرية في تركيا، وهي كذلك لم تمانع بل دعمت دخول الحزب الإسلامي في العراق الحكومة العراقية العميلة لأمريكا، وهي كذلك تحاول يائسة إسقاط تلك التجربة على حركة طالبان وفق ما نتج عن مؤتمر لندن الأخير والذي دعا إلى استمالة "ما سماه الجهات المعتدلة في طالبان" ودعوتها للمشاركة في العملية السياسية هناك.

فأمريكا دعمت تيارات الإسلام "المعتدل" علانية أو تحت جنح الظلام، وتعدى دعمها هذا مجرد الوقوف في وجه التيارات التي تصنفها "بالأصولية" إلى الاستغلال السياسي الدنيء الذي سخر تلك التيارات في بعض الأحيان والبلدان لخدمة مشاريع الغرب السياسية.

أما عن مدى ما حققته هذه التجارب من نجاح فهي لم تحقق نجاحاً يذكر على صعيد وصفها بالتيارات الإسلامية، ولنأخذ للدلالة على ذلك أمثلة تركيا والسودان والأردن ومصر.

ففي تركيا لم تعدو تجربة حزب العدالة والتنمية عن كونها مثالاً صارخاً لمدى تسخير أمريكا لتيار ظاهره إسلامي وهو في حقيقته تيار علماني، فلطالما صرح قادته بمحافظتهم على مبادئ الدولة العلمانية الكمالية، فتجربة حزب العدالة والتنمية ليست مثالاً لنجاح التيارات الإسلامية في استلام الحكم بل هو مثال على نجاح أمريكا في تسخير هذا التيار لتحقيق أجنداتها في الاستيلاء على النفوذ في تركيا والاستئثار به دون الاستعمار القديم. ثم ما معنى نجاح هذا التيار أو ذاك إذا ترك الإسلام بنظمه الاقتصادية والاجتماعية ونظام العقوبات بل ودستوره الشامل خلف ظهره، وتمسك بأفكار علمانية بالية، فكيف يصر البعض على تسمية تجربة تركيا بتجربة إسلامية وهي لا تعدو تجربة علمانية صرفة؟! وما دار من صراعات بين حزب العدالة والجيش لم يكن سوى صراع بين النفوذ الجديد والنفوذ القديم؟!

وأما تجربة السودان فلنا في مآل هذه التجربة من انقسام التيار الإسلامي هناك على نفسه وانخراطه في مشاريع تقسيم السودان ومخططات أمريكا، مما يدعو للقول أن صبغة ومسحة الإسلام التي اكتساها تيار البشير لم تكن سوى استغلال لمشاعر المسلمين الجياشة لتحقيق وتنفيذ تلك المخططات الجهنمية التي أورثت السودان البوار.

وأما تجربة الأردن، فلقد بات واضحاً أن انخراط "الإسلاميين" في الحكم وشراكتهم مع النظام الحاكم هناك لم يخرج عن كونه دعامة يتقوى بها النظام كلما ضعف بنيانه واهترأت شعبيته، وعن هذه التجربة يقول الكاتب عبد الجبار سعيد "وساهم الإخوان مساهمة إيجابية في استقرار المجتمع الأردني والنظام الأردني، وأوضح ما كانت هذه المساهمة عندما وقفوا إلى جانب النظام عندما جرت محاولة الانقلاب عليه، وهتفوا باسم جلالة الملك حسين رحمه الله في شوارع الزرقاء وعمان، وساهموا في إحباط تلك المحاولة."

وأما تجربة الإخوان في مصر فبرغم ما تقدمه الحركة من عروض سخية بتأييد ودعم النظام في حالة السماح لهم بالانخراط الرسمي في العملية السياسية إلا أن النظام السائر في فلك المشاريع الغربية هذه المرة هو من يرفض هذا التعايش مع هذا التيار الإسلامي، مما يعكس مدى الانحدار في النظرة للمشروع الإسلامي بصورة عامة ومن خلوها من أهم المرتكزات الإسلامية وهي تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً شاملاً.

أما آثار هذه التجارب على مشروع الأمة النهضوي فلقد كانت آثار سلبية، وتختبأ في ثنايا هذه التجارب وميض إيجابية غير مقصودة.
فلا يخفى على المتابع لتجارب الحركات الإسلامية في شراكتها مع الأنظمة وما ترتب على ذلك من آثار أن هذه التجارب أضرت بمشروع الأمة النهضوي، فمن جهة كشفت تلك التجارب أن التيارات الإسلامية-صاحبة هذه التجارب الفاشلة- هي تيارات واقعية مثلها مثل التيارات الأخرى ودعا ذلك الأمة إلى تعميم هذا الحكم على جميع الحركات والتيارات الإسلامية، ومن جهة أخرى أفرغت تلك التيارات شعار تطبيق الإسلام كشعار "الإسلام هو الحل" من مضمونه مما جعل الأمة تظن أن رفع أي شعار لتطبيق الإسلام هو وسيلة وأداة لمجرد الوصول إلى الحكم دون تطبيق الإسلام بحق، ومن جهة ثالثة فلقد كانت تلك التيارات في بعض التجارب أداة للقوى الغربية الاستعمارية مستغلة ما تلبس من ثوب الدين.

وأما الإيجابية الوحيدة فتمثلت في أن فشل تلك التيارات عزز قناعة الأمة بأن لا خلاص لها سوى بتطبيق الإسلام تطبيقاً خالصاً من الشوائب، وأنه لا يمكن تغيير الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة من خلال شراكة هذه الأنظمة ومسايرتها وأن لا سبيل للتغيير الحقيقي سوى باقتلاع هذه الأنظمة من جذورها والتخلص منها بصورة نهائية.

إن التيارات الإسلامية التي انخرطت في العملية السياسية وعمدت إلى التعايش مع أنظمة تطبق شرعة الطاغوت قد بعدت عن نهج الرسول الكريم الذي خط لنا معالم الولاء والبراء والمفاصلة، وبين لنا أن العاملين للإسلام لا يمكن أن يخضعوا للمساومة على فكر واحد أو تطبيق حكم واحد، كما بين لنا الرسول الأكرم أن مواقف العاملين للتغيير لا بد أن تكون مواقف مبدئية لا براغماتية متقلبة فهو من قال لبني عامر بن صعصعة أثناء سعيه السياسي لحشد طاقات الأمة لتطبيق الإسلام عبر دولة رافضاً اشتراطاتهم التي تمس ما يحمل من أحكام ومنهاج (الأمر لله يضعه حيث يشاء) وفي هذا الموقف مثال صارخ لرفض الحياد عن تطبيق حكم واحد فكيف بمشاركة أنظمة تحكم بأنظمة كفر لا تمت إلى الإسلام بصلة، فهل يعقل أن يمتزج الإسلام بالكفر فينتجان ديناً جديداً أو منهاج حياة مبتكر؟!!

إن قضية الأمة لا تحل بوصول الأشخاص لسدة الحكم بل بوصول الإسلام كمبدأ ومنهاج حياة لسدة الحكم ليعاد صياغة الحياة والدولة والمجتمع وفق أحكام الإسلام ليحيا المسلمون حياتهم بطمأنينة وحياة كريمة عزيزة فتعود لهم الخلافة دولة النور حاملة مشعل الهداية لتنير للبشرية ظلمتها الحالكة.