الفاتيكان وتضليله السياسي

لا يخفى على المتابع عمق الخصومة التي تكنّها مؤسسات الغرب النصرانية للإسلام وأهله، وبالرغم من دعوات الحوار الزائفة ومحاولة التقريب بين الأديان التي تتشدق بها المؤسسات الكنسية، إلا أن طابع الخصومة والحقد الدفين بقي هو العلامة المميزة والطابع الدائم لهذه العلاقة.

فبابا الفاتيكان الحالي بنديكتوس السادس عشر لم يخف ذلك عندما هاجم الإسلام واصفا اياه بالهمجية وهاجم نبي الرحمة عليه السلام في محاضرة له في جامعة ألمانية، كما أنه غمز ولمز في الإسلام في اجتماعه الأخير بأساقفة الشرق الأوسط بقوله "على ما يبدو ترتكب أعمال العنف باسم الله، لكنها في الواقع ديانات زائفة يجب كشفها"، وما أسماه بـ"سلطة الأيديولوجية الإرهابية"، كما أن فكرة حرق القرآن خرجت من رحم كنائس الغرب بالرغم من معارضتهم الظاهرية للفعل، وكثيرة هي الحوادث التي تعكس مدى ما تخفيه المؤسسات الكنسية الغربية من حقد وبغضاء تجاه المسلمين.

لقد نص المبدأ الرأسمالي على فصل الدين عن الدولة، وجعل في أبجدياته "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وبالرغم من خطأ هذا الأساس الذي قام عليه المبدأ الرأسمالي بجملته وتفصيلاته، إلا اننا نلاحظ استثمار الرأسماليين للدين النصراني دوماً في أية أحداث سياسية يكون طرفها الآخر هم المسلمون، وتبرز للعيان وكأن العلاقة أو الصراع قائم بين النصرانية والإسلام في هذه الحوادث، والحقيقة أنها بين الرأسمالية مسخِرة للنصرانية وحقد مؤسساتها على الإسلام من جهة وبين الإسلام من جهة أخرى.

وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على حرص الرأسماليين على إذكاء جذوة الحقد الدفين الذي غرسته المؤسسات الكنسية الغربية ضد الإسلام وأهله.

لذا لم يكن غريباً أن يحشد الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش الأمريكيين والغرب خلف حربه على أفغانستان تحت مسمى الحرب الصليبية، ولم يكن غريباً أن يتم الكشف عن الكتب التبشيرية التي يروج لها الجيش الأمريكي في أفغانستان.

إن الحكومات الغربية لا تقيم وزناً لصالح الدين النصراني كما تتوهم الشعوب الغربية بل هي لا تعترف بالقيم الروحية أصلاً وان غضّت الطرف عنها، وإنما تهتم بمصالحها السياسية الاستعمارية، وما حرص الحكومات على نشر النصرانية سوى لاستغلالها كأداة لخدمة مخططاتها السياسية لا سيما تلك التي تستهدف العالم الإسلامي. والأمثلة على ذلك لازالت شاخصة في جنوب السودان وفي لبنان وفي نيجيريا.

لقد كانت المؤسسة الكنسية الغربية طوال العصور الغابرة أداة تُسخر لصالح السياسيين على اختلاف مسمياتهم، فكانت في العصور الوسطى أداة للإقطاعيين تشرع إجرامهم بحق الناس حتى عدّها البعض مكوناً من مكونات النظام الإقطاعي، واليوم تلعب الكنيسة نفس الدور لصالح الرأسماليين والسياسيين الفاسدين في كافة الدول الغربية وتروج لمشاريعهم الاستعمارية.

وها هو بابا الفاتيكان في سينودس الشرق الأوسط للأساقفة الكاثوليك المنعقد في الفاتيكان يشرع الوجود اليهودي على أرض فلسطين المغتصبة ويروج للمشروع الأمريكي مشروع حل الدولتين، ويقر بسيطرة يهود على القدس، وان دعا لتدويلها، خلافاً للعهدة العمرية، التي عاش النصارى في كنفها بحرية وتم استبعاد يهود منها بناء على طلبهم ذلك من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

لقد عاش النصارى في كنف الخلافة الإسلامية على اختلاف عصورها عيشة كريمة، حفظت فيها الخلافة لهم حقوقهم الرعوية فكان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وتركتهم وما يعتقدون وما يعبدون دون أية مضايقة، بل إن الرسول عليه السلام قد جعل أذيتهم جرماً وحرم أن تخفر ذمتهم، وأوجب الدفاع عنهم وأمر بحسن معاملتهم "ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة"، وبالرغم من أن الإسلام يدعو النصارى واليهود لاعتناق الإسلام باعتباره ناسخاً للأديان السابقة إلا أنه لا يجبر أحداً على اعتناقه بل يدعوهم لذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولقد شهد التاريخ دخول العديد من أهل الكتاب في الإسلام دون إكراه أو إجبار حتى إن الذين بقوا على دينهم قاتلوا الصليبيين جنباً إلى جنب المسلمين إدراكاً منهم لتسخير حكام أوروبا للكنيسة لصالح أطماعهم الاستعمارية وحفاظاً منهم على المجتمع الإسلامي الذي عاشوا فيه بكرامة واحترام. 

إن الأجدر في نصارى الشرق ولا سيما نصارى فلسطين أن يرفضوا تسييسهم من خلال المؤسسات الكنسية وعلى رأسها الفاتيكان التي دأبت على خدمة المشاريع الاستعمارية للقوى الدولية، وأن يرفضوا أن يكونوا أداة بيد هؤلاء الرأسماليين المستعمرين، وأن يرفضوا زجهم في متاهات الصراعات الاستعمارية، وأن يناصروا سعي المسلمين لإقامة الخلافة التي تعيد تطبيق العهدة العمرية فيعيشوا في كنفها برغد واطمئنان.

مناهج التعليم تنبت من سحت المانحين!

لم يخطئ المثل القائل "التعليم في الصغر كالنقش في الحجر"، ونال المثل "من شبّ على شيء شاب عليه" جانباً كبيراً من الصحة، ولم يغال الناس باهتمامهم بتعليم أبنائهم منذ نعومة أظافرهم شتى أنواع العلوم والمعرفة.

لذلك سعت المجتمعات البشرية منذ قدمها لابتكار أماكن التدريس والكتاتيب المختصة التي تعلم الناس القراءة والكتابة وشتى العلوم، والتي تطورت لتعرف بالمدارس ومن ثم ابتُكرت المعاهد والجامعات.

وكان الاهتمام البالغ لدى المسلمين على مر العصور في تعليم الأطفال ينصب على تنشئتهم بحسب ثقافة الأمة، وتكوين عقليتهم ونفسيتهم بحسب هذه الثقافة لتخرّج تلك المدارس شخصيات إسلامية متميزة، ترى العالم من منظور محدد وتقيس الأمور والحوادث بمقياس محدد بالغ الدقة. ولم تُهمل العلوم الطبيعية في عصر من عصور المسلمين، ويكفي الإشارة إلى ريادة المسلمين في كافة المجالات العلمية للدلالة على براعتهم في هذه المجالات.

ولقد أدرك الكافر المستعمر، من خلال تاريخ طويل من التجارب، ضعفه في معاركه الفكرية مع المسلمين طالما أنهم متمسكون بشريعتهم وبأحكام وافكار دينهم، وطالما أنهم ينهلون من هذا المعين الصافي دون شوائب، لذا عمد إلى الغزو الثقافي والتبشيري لبلاد المسلمين مما هو معلوم ولا يحتاج لتكرار سرد، وها هو الكافر المستعمر اليوم يسير على نفس الخطى وها هو يعمد إلى تحريف وتغيير مناهج التعليم في بلاد المسلمين كأداة وركيزة هامة في حربه الفكرية والحضارية ضد المسلمين.

إن العلاقة التي تربط المسلمين بدول الغرب –بعيداً عن البهرجات الإعلامية والعلاقات العامة والدعاية- هي علاقة صراع حضاري مبدئي يسعى من خلالها الغرب إلى تكريس هيمنته على بلاد المسلمين، وزرع مفاهيمه الخاطئة عن الحياة في عقول وقلوب المسلمين ليبقي قبضته على بلادهم، ينهب ثرواتهم ويستعبد شعوبهم. ولم يجد الغرب من وسيلة أسهل للنفاذ إلى عقول المسلمين من اختراق مناهج تعليمهم في ظل أنظمة سياسية تدين له بالطاعة والولاء.

وحوادث تدخل القوى الغربية الاستعمارية في صياغة مناهج التعليم -لا سيما ما يتصل منها بالثقافة والتاريخ- في مصر والمغرب العربي والحجاز وغيرها مما لم ينشر ويظهر للإعلام خير شاهد على ما أقول.

ما دفعني للكتابة ولهذه المقدمة ولتناول موضوع ربما يراه البعض قديماً بالرغم من حداثة كثير من فصوله المتغيرة لا سيما في فلسطين، هو ما تناقلته وسائل الإعلام حول عزم السلطة من خلال وزارة التربية والتعليم تدريس كتاب تاريخ يعرض وجهتي النظر للطرفين المتصارعين في فلسطين بعنوان "تعلم رواية الآخر" وهو كتاب من إعداد أستاذ فلسطيني وآخر يهودي بدعم سويدي.

وبالرغم من نفي بعض المسؤولين من وزارة التربية ولجنة المناهج عزم الوزارة على تدريس الكتاب المذكور لطلاب المدارس، لكن المشروع لا زال قائماً والكتاب قد تم اعداده وهناك أخبار ترد عن عزم السويد (الدولة الممولة للمشروع) عقد ورش عمل بهذا الخصوص بين أساتذة وطلاب فلسطينيين و"إسرائيليين".

كما كشفت وسائل الإعلام أثناء كتابتي لهذا المقال عن اتفاقية مشابهة موقعة بين بلدية كونج لاف ووزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية محتواها (برامج تعليمية من فلسفة برايم) الرئيسية من 2010-2012 وتضم 10 طلاب ذكور واناث من عمر 16-18 سنة ومعلمين لكل مجموعة وفي نهاية الفترة المحددة سيتم تقييم المشروع، ومناقشة امكانية جعل الاتفاقية دائمة وسيكون لمؤسسة برايم دور كمساهمين في المشروع.

وهدف هذا المشروع (حسب ما ورد في الاتفاقية) أهمية التنافس في السرد التاريخي، في الوقت نفسه سيكون من واجبهم التعريف بأسس التفاهم المتبادل.

ما يلفت النظر في هذه الحوادث التي فضحت إعلامياً مما استدعى النفي الرسمي لبعضها في بعض تفصيلاتها، هو وقوف الدول المانحة وراء مشاريع تتصل بإعداد المناهج، وكيف تسمح السلطة وأي نظام في أي بلد كان –لو توفرت له الإرادة والسيادة- أن تتدخل قوى أجنبية صديقة كانت أم عدوة –وفق ما يحب من التصنيفات- في مناهج تعليم أبنائه أو حتى مشاريع خاصة تتصل بها؟! وسواء أكان الحديث عن هذا الكتاب أم عن هذه الاتفاقية أم عن غيرهما، كيف تسمح السلطة وتسوغ لنفسها ان تتلقى الدعم والتمويل المالي من الدول المانحة لتعدّ لأبنائنا منهاجاً من سحت المانحين؟! أليس من يملك المال يملك القرار؟! أليس الممول هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المشروع الذي موّله؟! ألا يسمى ذلك تمكين للدول الغربية والمسماة بالمانحة من عقول أبنائنا فلذات أكبادنا؟! وهل من لديه أدنى المعارف السياسية يمكن أن يظن أن في سياسات الدول الغربية شيئاً لوجه الله؟!

وامام هذه الحوادث التي أعتبرها جريمة بحق التعليم وبحق فلذات أكبادنا أود في هذه العجالة التأكيد على الأمور التالية علها أن تلامس عقل رشيد فيوقف هذا العبث اللامسؤول بحق أبنائنا:

1. إن الأصل في مناهج التعليم أن تستقي المعلومات مبنية على عقيدة الأمة، فتكون العقيدة هي مقياس الصواب والخطأ في أية معلومة يتلقاها الطالب، وإن تدريس أية معلومة لم تستند إلى عقيدة الأمة هو تخريب لعقلية أبنائنا وسعي لغرس المفاهيم الغربية الغريبة عنا في عقولهم.

2. إن التذرع بتدريس الرأي الآخر لنقضه ودحضه هو حجة واهية إن كان الأمر يتعلق بطلاب مرحلة أساسية أو ثانوية لم تكتمل بناء العقلية السليمة المستندة لعقيدة الأمة لديهم، فهم غير قادرين على تمييز الغث من السمين، مما يجعلهم عرضة للتشويش الفكري ويزعزع ثقتهم بما يحملون من أفكار، هذا على فرض أداء المناهج التعليمية لمهمة بناء العقلية بناءً سليماً، وعلى فرض أن تدريس الرؤية "الإسرائيلية" لقضية فلسطين إنما هو لنقضها، والحقيقة أنها لا تسرد للنقض بل للعرض "بحيادية!".

3. إن المشاريع الغربية في المنطقة، لا سيما تلك المتصلة بمناهج التعليم لا يمكن فصلها أو انتزاعها من سياق الحرب الحضارية التي يشنها الغرب الرأسمالي على بلاد المسلمين، وكل تحريف لسياق هذه الحملة ومحاولة تلبيسها بحجج وذرائع واهية هو تضليل وتزييف للحقائق ومخالفة لقطعي النص القرآني الذي أخبرنا عن أهداف مشاريعهم وإنفاقهم لأموالهم على المسلمين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

4. إن سياسة منع التحريض في مناهج التعليم الذي تطالب به كل من الولايات المتحدة ودولة يهود ترمي إلى نزع المسلمين من ثقافتهم وتركهم لتاريخ العلاقة بيننا وبين يهود وتحريف الحقائق القرآنية الثابتة بحق يهود ووجوب مقاتلهم باعتبارهم مغتصبين لأرض الإسراء والمعراج، والرضى بهذه السياسة والسير بها هو طعن للمسلمين من الخلف واصطفاف بجانب أعداء الامة.

5. إن هذه المشاريع المشبوهة هي حلقة من حلقات التطبيع الفعلي لا سيما في أوساط شريحة هامة وهم شريحة الطلاب.

6. إن أهل فلسطين وعموم المسلمين هم أصحاب الحق في هذه الأرض المباركة، وفلسطين كاملة غير منقوصة او مجتزأة هي أرض خراجية رقبتها ملك للأمة الإسلامية، وكيان يهود هو كيان محتل غاصب لهذه الأرض لا يصح الاعتراف بشرعيته ولا مفاوضته، ويجب على الأمة عامة وعلى أهل القوة والمنعة فيها على وجه الخصوص التحرك عاجلاً لاقتلاع هذا الكيان السرطاني واستئصاله والقضاء عليه قضاءً مبرماً، وتطهير أرض فلسطين المباركة مسرى النبي محمد عليه السلام من رجس يهود.

هذه هي الحقيقة الثابتة المبنية على عقيدة الأمة وشريعتها التي يجب أن تدرس لأبنائنا، وكل قول خلافها يرد، وكل سعي لزرع مفاهيم "التعايش" والرضى بالمحتل هو جريمة يجب وقفها.