التطبيع السياسي في مزاد حوار الأديان

بسم الله الرحمن الرحيم

التطبيع السياسي في مزاد حوار الأديان

إن فكرة حوار الأديان التي ذاع صيتها في عصرنا الراهن فطغت على الحكام والعلماء الذين يسايرونهم في سياساتهم، وأصبح المصنفون بـ"المعتدلين" ينادون بها صباح مساء ، هي فكرة غربية خبيثة يراد منها حرف المسلمين عن جادة الصواب وزيغهم عن دينهم الحق ، ولقد حملت مؤتمرات الحوار بين الأديان دلائل هذا القول في أطروحاتها التي نادت بها طوال العقود الماضية ، فمن حيث النشأة فقد بدأت هذه الفكرة بشكل دولي عام 1932م عندما بعثت فرنسا ممثلين عنها لمفاوضة رجال الأزهر في فكرة توحيد الأديان الثلاثة ، الإسلام والنصرانية واليهودية ، ثم تتابعت المؤتمرات في هذا الشأن في عام 1933م فمؤتمر باريس ، ودعوة البابا لحوار الأديان عام 1964 ، ....، الى آخر مؤتمر عقد في نيويورك في مقر الجمعية العمومية للأمم المتحدة بدعوة من ملك السعودية عبدالله بن سعود ، أما الأفكار التي تسعى هذه المؤتمرات الى تكريسها فتدور – بحسب المنظرين والمروجين لها -حول أهداف ثلاثة وهي :

أولاً :التساوي بين الاديان و بين الحضارات و عدم التفاضل بين دين و دين أو حضارة و حضارة .
ثانياً :قبول الآخر كما هو و استكشافه دون اصدار أحكام ضده بل ادراك ما عنده دون قيد او شرط .
ثالثاً:التفاعل لايجاد بديل حضاري أرقى عن طريق استلهام ما هو مشترك بين الحضارات و الاديان .

ولا يخفى على كل منصف ومفكر خطورة هذا الطرح على الفكر الصحيح ومجانبته للتفكير السليم ، فالدعوة للمساواة بين الأديان هي دعوة لطمس الحقيقة إذ أن الأديان-بشكلها الراهن- تحمل بذرة الإختلاف والتباين فيما بينها وكلٌ من حملتها يدّعي الصحة وخطأ من سواه ، والحقيقة هي أن إحداها هو الحق والصواب وهو ما قامت الأدلة والبراهين على صحته وصدقه وإقناعه للعقل وموافقته للفطرة ، وما لم يقوَ على المحاججة سقط من الاعتبار ، كما أن في قولهم بضرورة استكشاف الآخر دون الرد عليه أو إصدار أحكام ضده هو جعل الفكر الحق بلا قيمة ، فصحة فكر يعني خطأ ما يخالفه وإلا لم يكن صحيحاً فعدم الاعتماد على هذا الفكر الصحيح في إصدار الأحكام يجعل صحته بلا قيمة ، وأما ثالثة الأثافي وهي الدعوة لاستلهام ما هو مشترك بين الأديان والحضارات فهو بلا شك دعوة لتكوين دين هجين يُستمد من مشارب مختلفة وأفكار انبثقت عن عقائد متباينة وأنىّ لمثل هذه الأفكار أن تتلاقى في منتصف الطريق علاوة على أن ينشأ منها دين جديد .

هذا من وجهة نظر عقلية ، أما من منظور الشرع فلا حوار بين الأديان إلا بدعوة أتباعها لإعتناق الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحجة (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فالدين الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) وهو المعتبر دون غيره (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) لذا دعا الإسلام أهل الأديان الأخرى الى كلمة التوحيد دون سواها والى إعتناق الإسلام دون إجبار أو إكراه بل بالحجة والبرهان (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) .
فالحق والباطل في نظر الإسلام لا يلتقيان (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) فكيف بالتساوي بينهما (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ) ، فدعوة الإسلام قائمة على إثبات صحته وبيان خطأ الأطروحات الأخرى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
أما إستكشاف الآخر دون الحكم عليه فخلاف أسلوب القرآن في الدعوة الذي دأب على تفنيد طرح العقائد الأخرى وبيان زيفها وأصدار حكمه عليها (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
وأما التفاعل لإيجاد بديل حضاري (دين) جديد فما ذكر من نصوص تدحض الأطروحات الأخرى وتثبت صحة الإسلام واعتباره الدين دون غيره يكفي للرد على هذه المقولة .

إن خطورة فكرة حوار الأديان على المسلمين بوجه الخصوص كونهم المستهدفين من هذه الفكرة هي خطورة عظيمة سيما والمسلمون بلا كيان يذود عنهم ويتبنى قضاياهم ويحمل دعوتهم ويتصدى لهذه الحملات الفكرية ، فالمسلمون اليوم هم الحلقة الأضعف لأنهم أمة بلا راع ولا إمام ، ولأنهم وحدهم الذين يمثلون البديل الحقيقي الذي يخشاه الغرب قاطبة إن قامت لهم دولة ، لذا كانت سهام الغرب مصوبة دوماً نحو قلب الأمة الإسلامية وكانت محاولاتهم التي لم تنقطع بأساليب ووسائل شتى تهدف الى تضليل المسلمين وإبعادهم عن الفهم الحق لدينهم فصوروا لهم دينهم بانه دين كهنوتي لا دخل له بالسياسة وسخر الغرب لهذا الغرض جيشاً من الحكام والمفكرين والإعلاميين الذين يحملون فكره ، بل إنهم ابتكروا التسميات والمؤتمرات الكثيرة خدمة لهذا المسعى ولعل مؤتمر الوسطية الذي عقد في عمان مؤخراً هو دليل استجابة البعض للأطروحات الغربية .

هذه لمحة موجزة عما يراد من مؤتمرات ودعوات حوار الأديان وهذا غيض من فيض من مخاطرها التي حاول البعض أن يكسوها بثوب الإسلام تحت ذرائع ومبررات واهية ، لكن الغرب -عبر أدواته من الحكام وعلماء السلاطين- وفي سابقة جديدة لم يكتف بهذه المخاطر الفكرية وهذه الدعوات الهدّامة بل أضاف لها بعداً آخر ألا وهو البعد السياسي فقد مثّل مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في نيويورك في الثاني والثالث عشر من الشهر الحالي مزاداً، سوّق فيه الحكام حكامَ "اسرائيل" للدول العربية وبقية العالم ، فقد تمت دعوة الرئيس الإسرائيلي بيرس ووزيرة خارجية "إسرائيل" ليفني وهذه دعوة سياسية من الطراز الأول فليس من المعلوم والمعروف عن بيرس وليفني تدينهما وتمسكهما باليهودية بقدر علمانيتهما فلم تكن هذه الدعوة سوى تطبيع مع اليهود من الدرجة الأولى ، وليس ذلك غريباً على ملك السعودية الذي عرض على "إسرائيل" تطبيعاً كاملاً مقابل السلام فها هو اليوم يقدم التطبيع بالمجان !!!

إن هذا البعد قد كشف الغرض من وراء هذه المؤتمرات فوق تعريتها ولقد أصبح ظاهراً للعيان أن كل تصرف وكل حركة وكل خطوة يقوم بها الغرب لها بُعد مبدئي يدخل ضمن حلبة صراع الحضارات المستمر بينه وبين المسلمين وأن الغرب لا تغفل له عين عن مراقبة تغير وتطور أحوال الأمة الإسلامية حتى في ظل أزماته المالية الخانقة ، فالمسلمون يمثلون الشغل الشاغل والهم القاتل للغرب لأن الغرب يرى فيهم المنافسين الحقيقيين والأكفاء لإستلام دفة مركب البشرية وزمام القيادة ، فهلاّ تفطن المسلمون لذلك ووعوا مكانتهم بين الأمم وسعوا الى تسنم ذرى المجد من جديد ؟

أزمة إقتصادية أم إنهيار نظم ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
أزمة إقتصادية أم إنهيار نظم ؟

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

في ظل أجواء ملبدة بغيوم قاتمة السواد وفي ظل ريح عاتية لا بل في ظل أعاصير مالية مدمرة مهلكة حتى أسماها البعض بتسونامي جديد ، يعيش العالم اليوم الأزمة المالية العالمية وأفئدته مضطربة هاوية ، فما هي أسباب هذه الأزمة ؟ وما هي مآلاتها وانعكاساتها على أمريكا والعالم ؟ وهل خطط الإنقاذ التي تسارع في رسمها الحكومات من واشنطن الى لندن وبرلين وباريس ستفلح في تقويض هذه الأزمة ؟ أم أن الأزمة ستواصل التدحرج حتى تبلغ أسفل سافلين ؟ وهل تشابه هذه الأزمة ما حدث في أواخر عشرينات القرن الماضي وما عرف بالكساد الكبير ؟ وهل سقطت نظرية حرية السوق وحرية رأس المال ؟ وهل تبقى الأزمة أزمة إقتصادية فقط أم تتعادها لتصبح بداية إنهيار للمبدأ الرأسمالي ؟ وهل يمثل النظام الإقتصادي في الإسلام حلاً للمشكلة التي تعاني منها البشرية ؟وما آلية تطبيق هذا النظام وكيف يمكن تعميمه على العالم ؟
أسئلة كثيرة وفي طياتها الكثير من الأسئلة سنسعى في هذه العجالة لنلقي الضوء على جوانب هامة منها علّنا أن نصل وإياكم إلى فهم حقيقة ما يجري وتصور ما آل إليه المبدأ الرأسمالي وكيف لنا أن نوفر لأنفسنا وللبشرية طوق النجاة .

تمهيد :

يخطأ من يظن بأن الأزمة المالية الراهنة التي تعصف بالعالم هي سحابة صيف عابرة أو أنها نتاج عدم الإلتزام بقواعد اللعبة الرأسمالية أو أنها مولود غير شرعي للمبدأ الرأسمالي ، فمن فقه واقع هذا المبدأ ونظامه المالي الاقتصادي الذي سمي المبدأ باسمه باعتباره أبرز ما في المبدأ يدرك بأن نهاية هذا المبدأ من أول يوم هي نهاية قاتمة وأن مصيره منذ لحظة ولادته هو الموت وأنه مهما علا فمآله إلى الانهيار ، لكن عمر هذا المبدأ ونظامه بقي في علم الغيب وطي الكتمان ، وبقي هذا المبدأ يهلك الحرث والنسل في جنح الليل وفي وضح النهار بأسماء وشعارات يضلل فيها البشر فتنطلي عليهم ، فتارة باسم الديمقراطية وتارة باسم حرية السوق وتارة باسم الشرق الأوسط الكبير وتارة باسم الاتحاد من أجل المتوسط وأخرى بالعولمة وغيرها ، والحقيقة التي ما خفيت على كل مبصر منذ اللحظة الأولى أن هذا المبدأ يسعى لاستعباد البشر ونهب خيراتهم ، ولا عجب في ذلك فهو يرى مقياس الأعمال من منظور المصلحة دون سواها ويحكم على الأفعال ضمن نطاق القيم المادية دون غيرها ويرى في الإستعمار مع تعدد أشكاله نهجاً لنشر مبدئه ، فمبدأ هذه أفكاره و منطلقاته وسلوكياته في الحياة ماذا يمكن أن ينتج من ثمار غير الشوك أو الحنظل في أحسن أحواله ؟!

ومن ثم إن مقياس صحة أي مبدأ وبالتالي صحة النظام المنبثق عنه يعود الى مدى صحة العقيدة والأساس الفكري الذي يقوم عليه ، والمبدأ الرأسمالي يقوم على عقيدة وفكرة فصل الدين عن الحياة ، وهي بلا شك عقيدة خاطئة إذ إنها لا تقنع العقل ولا توافق الفطرة فهي قد ساوت بين المقر بوجود الخالق وبين المنكر لوجوده وقصرت الدين على أماكن العبادة وحدها وأعطت العقل البشري العاجز صلاحية تشريع القوانين والنظم ، كما لا يخفى على كل مطلع على تاريخ نشوء هذه العقيدة أنها كانت حلاً وسطاً بين طرفين متنازعين ولم تكن نتيجة بحث فكري موضوعي ، فلقد وضعت هذه العقيدة التي أصبحت تعرف بعقيدة الحل الوسط قبل التفكير بصحتها أو خطئها فهي ليست نتيجة بحث عقائدي في الكون والإنسان والحياة بل كانت نتيجة حل توافقي بين رجال الكنيسة والفلاسفة المنكرين للدين .

هذه هي حقيقة المبدأ الرأسمالي وحقيقة عقيدته وهي متهافة نظرياً غير أن هيمنته المؤقتة على العالم وما حققه من تقدم في مجالات العلم والتكنولوجيا سحر الأعين وغشاها ما غشى فظن البشر بأن المبدأ الرأسمالي هو الذي يقود للرفاهية ورغد العيش ولكن سرعان ما انقشع الغمام وبان للبشر بأن الجنان التي تراءت لهم ما هي سوى سراب خادع وأن العيش الذي يحلمون به ما هو الإ عيش يتسولون فيه كسرة الخبز وقطرة الماء ويتوسدون فيه الأرض ويلتحفون فيه السماء .

هذا هو سياق ما يحل بالعالم اليوم في ظل الأزمات الإقتصادية المتكررة التي خلفها لهم المبدأ الرأسمالي ، والأزمة المالية التي نعيشها اليوم ليست سوى ثمرة مرة من هذا الحصاد الأثيم ، لكن هذه الثمرة بلغت من المرارة ما لم تبلغه مثيلاتها فلقد ارتوت من السم الزعاف الذي يسري في لحاء الرأسمالية ونضجت في ظل ظلام دامس فكانت ثمرة حقيقية غايرت تلك الثمار التي كانت تفرزها الرأسمالية وتسوقها قبل نضجها فكانت هذه الأزمة هي المثال الحي والشاهد الناطق على ما يمكن أن يجنيه البشر من هذا المبدأ ونظامه بل إنها كانت علامة سقوط هذه الشجرة التي كانت نبوءة سقوطها في أول ثمرة حقيقية مكتملة النضج تثمرها .

أسباب هذه الأزمة

أما أسباب هذه الأزمة فأسباب جذرية أساسية سببت هذه الأزمة وغيرها من قبل وقشة قصمت ظهر البعير ، اما الأسباب الجذرية والتي كانت ماكينة تفريخ للأزمات المالية والإقتصادية طوال العقود الماضية فكانت بمثابة دابة الأرض التي أكلت منسأة الرأسمالية فأتت عليها ، فهي أربعة :

الأول: إقصاء الذهب عن كونه الغطاء النقدي، وإدخال الدولار شريكا له في اتفاقية بريتون وودز مع نهاية الحرب الثانية، ثم بديلا له في أوائل السبعينات عندما أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون عن فك إرتباط الدولار بالذهب مما قاد الى جعل الدولار متحكما في الاقتصاد العالمي، وأساساً لعملات الدول الأخرى ، بحيث تكون أية هزة اقتصادية في أمريكا مشكِّلةً ضربة قاسية لاقتصاد الدول الأخرى، وهذا يفسر تداعي الدول الأوروبية ودول آسيا لإنقاذ الدولار من مآزقه المتكررة .
والثاني: إن القروض الربوية تشكل مشكلة اقتصادية كبرى، حتى إن مقدار الدين الأصلي سيتضاءل مع الزمن بالنسبة للربا المحسوب عليه، فيصبح عجز الأفراد والدول أمرا واردا في كثير من الحالات، ما يسبب أزمة تسديد الدين، وتباطؤ عجلة الاقتصاد لعدم قدرة كثير من الطبقات الوسطى بل والكبرى عن تسديد الدين ومواكبة الإنتاج وهذا ما قاد بصورة مباشرة الى إنفجار فقاعة الرهن العقاري التي كانت السبب الرئيس في الأزمة المالية العالمية .

والثالث: إن النظام المعمول به في البورصات والأسواق المالية، من بيع وشراء للأسهم والسندات، والبضائع دونما شرط التقابض للسلع بل تشترى وتباع مرات عدة ، دون انتقالها من بائعها الأصلي، هو نظام باطل يعقد المشكلة و لا يحلها، حيث يزيد التداول وينخفض دون تقابض بل دون وجود سلع...، كل ذلك يشجع المضاربات والهزات في الأسواق، وهكذا تحدث الخسائر والأرباح بطرق شتى من النصب والاحتيال وقد تستمر وتستمر قبل أن تنكشف وتصبح كارثة اقتصادية.

والرابع : وهو عدم الوعي على واقع الملكيات، فهي قد كانت عند مفكري الشرق والغرب إما مِلكية عامة تتولاها الدولة وفق النظرية الاشتراكية الشيوعية، وإما مِلكية خاصة يتولاها القطاع الخاص ولا تتدخل الدولة بها وفق النظرية الرأسمالية الليبرالية المعتمدة على حرية السوق، والخصخصة، ثم أضيف لها العولمة مما جعل حفنة من أغنياء العالم يتحكمون بثروات البشرية ويوردونها موارد الهلاك سعياً وراء زيادة أرصدتهم البنكية ولو على حساب كسرة الخبز وقطرة الماء لجوعى العالم .


أما القشة التي قصمت ظهر البعير فتتمثل في انفجار ما عرف بفقاعة الرهن العقاري في منتصف عام 2007 ، فبعد إزدهار قطاع العقارات في أمريكا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتزايد الطلب عليها وبعد أن قدمت الحكومة الأمريكية التريليونات لمؤسسات الإقراض بفوائد بسيطة لدعم قطاع الرهن العقاري والاستثمار فيه وبعد أن قامت آلة الإعلام التي يسخرها أرباب الأموال لخدمة مصالحهم بالترويج لسوق العقارات بشكل هائل ، أقدمت كبرى شركات الرهن العقاري وكبرى مؤسسات الإقراض على تقديم قروض عالية المخاطرة للمستدينين من الأفراد والمؤسسات مما رفع من نسبة الفائدة على هذه القروض وبسبب ما شهده هذا القطاع من نمو كبير في فترة محدودة فقد طمع فيه الكثيرون وسال له لعاب المستثمرين و المؤسسات الربوية في أمريكا وغيرها فأقبلوا جميعاً على شراء وبيع سندات الدين وأوراق القروض ولم تقتصر عمليات الشراء والبيع على السوق الأمريكية بل تعدتها لتعم معظم الأسواق العالمية مما جعل هذه الأموال تتكاثر وتتضاعف بسبب الفوائد المركبة وعمليات البيع والشراء المتكررة لهذه السندات والأوراق المالية ، ومع انفجار فقاعة الرهن العقاري بسبب طلب الحكومة الأمريكية تحصيل ما اقرضته للبنوك من أموال لتغطية نفقات العمليات العسكرية في العراق وأفغانستان الآخذة في الإرتفاع ، تعرض قطاع العقارات لهزة قوية ، فبسبب الفوائد العالية التي وضعت على قروض العقارات وبسبب عجز أصحاب العقارات على السداد ومع حلول استحقاقات كثير من السندات والأوراق المالية وفوائدها ، لم تعد مؤسسات الإقراض والرهن العقاري قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية وجراء ذلك انخفضت اسعار العقارات مما أحدث فجوة بين سعر العقار الحقيقي والقرض الذي عجر المستدين عن سداده مما قاد الى وجود مبالغ هائلة تعد أموالاً معدودمة او سندات رديئة ، وعقب ذلك فُقدت السيولة من مؤسسات الإقراض والبنوك ولم تعد تملك هذه المؤسسات سوى عقارات كاسدة لا سوق لبيعها وإذا بيعت بيعت بأبخس الأثمان ، ويذكر أن بعض الإحصائيات قبيل تفاقم هذه الأزمة قدرت عدد العقارات الكاسدة المعروضة للبيع بثلاثة ملايين عقار ، ولقد أدت أزمة الرهن العقاري الى إفلاس مؤسسات إقراض وشركات رهن كبرى في أمريكا كما أشرت كبرى شركات التأمين على الإفلاس وأشهرها شركة ايه اي جي وذلك بسبب البدعة التي ابتكرها هؤلاء من التأمين على السندات عالية المخاطرة مما أرهق ميزانيتها بسبب الأموال الطائلة التي قدمتها الشركات للمؤمّنين على السندات التي تهاوت مع الأزمة ، كما انعكس إفلاس البنوك والمؤسسات المالية الأمريكية على العالم ، وقدرت بعض المصادر المالية خسائر الرهن العقاري بنحو 2.5 تريليون دولار في أمريكا ، وخسائر فادحة أخرى في أوروبا وبقية دول العالم الأخرى.


آثار الأزمة الراهنة ومخلفاتها :

أما آثار هذه الأزمة فمن الصعب إحصاؤها أو حصرها فلقد عمت وشملت كبرى البنوك والمؤسسات في أمريكا التي تملك 40% من اقتصاديات العالم كما شملت دول أوروبا وآسيا وبقية دول العالم ونحن في هذه العجالة لن نستطيع أن نحصي هذه الآثار المدمرة لأنها مستمرة وآخذ بعضها برقاب بعض ، لكننا سنأتي على ذكر أبرزها الى الآن-وقت كتابة هذه الورقات- لأن تغييرات الأسواق المالية وهبوطها والخسائر الفادحة التي يمكن أن تنتج جراء ذلك أصبح أمراً يومياً إن لم يكن لحظياً لذا يصعب الوقوف على مدى ما خلفته هذه الأزمة لأنها في بدايتها ولن نستطيع إحصاء الخسائر الفادحة التي ألحقتها بالعالم أجمع .
ومن هذه الآثار

• دخول اقتصادات الدول الصناعية الرئيسية في العالم في مرحلة ركود "طويل الأمد" مع احتمال انكماش اقتصادات الولايات المتحدة ومنطقة اليورو في العام القادم بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
• انهيارات حادة ومستمرة في أسواق المال الأمريكية والعالمية .
• انهيار وإفلاس مؤسسات مالية ضخمة من مثل بنك ليمان برذرز رابع أكبر بنك بالولايات المتحدة الذي تكبد خسائر تقدر بالمليارات نتيجة سوق الرهن العقاري الأميركي وقدرت خسائره بـ 617 مليار دولار.
• كما خسرت ميريل لينش الإئتمانية 23 مليار دولار.
• وتم تحويل آخر بنكين استثماريين الى شركتين قابضتين .
• فقد صندوق التقاعد الأمريكي قرابة 2.2 تريليون دولار بين عشية وضحاها .
• أغلقت السلطات الأميركية سبعة عشر بنكاً جراء تداعيات الأزمة المالية ومنها بنك بنك فريدوم.
• كما تعرض قطاع صناعة السيارات العمود الفقري للصناعة الأمريكية الى هزة قوية خاصة شركة جنرال موتورز المهددة بالإفلاس بسبب الخسائر التي لحقت بها جراء حالة الركود غير المعلنة وكذا شركة كرايسلر وفورد.

• وانتقلت آثار هذه الأزمة الكارثية لتعم دول آسيا واوروبا كأيسلندا التي أفلست كلياً ، كما دفعت الأزمة العديد من دول أوروبا الى تأميم بنوكها، والعالم الآن ينتظر فترة الكساد المتوقعة ويخشى من آثارها التي ستعم جميع جوانب الحياة ولا سيما الفقراء منهم وهذا ما حذر منه صندوق النقد الدولي مؤخراً .
• كما تضاعف عجز المزانية الامريكية ثلاث مرات خلال السنة المالية 2007 - 2008 ووصل الى 455 مليار دولار وهو اعلى رقم يصل اليه عجز الميزانية على الاطلاق، ويمثل اكثر من ثلاثة في المئة من مجموع الناتج القومي. وتشهد بريطانيا أكثر حالة بطالة في تاريخها فقد وصل عدد العاطلين عن العمل ما يقارب 2 مليون شخص ويهدد الركود اقتصاديات دول اليورو.

خطط الإنقاذ ومحاولات ترقيع المبدأ الراسمالي :

اما خطط الإنقاذ التي سارعت بها أمريكا ودول الإتحاد الأوروبي فلم تكن سوى مجرد عرقلة لكرة الثلج المتدحرجة والتي ما عادت تبقي شيئاً في طريقها إلا دمرته ، وهي معالجة للمشكلة من نفس المسبب لها فما تقدمه الدولة ليس صدقة أو منحة بل قروضاً بفائدة ستعمل الدولة على تحصيلها لاحقاً أو وعودات وضمانات لودائع أو سندات غير مستحقة الى الآن ، فما تطرحه خطة الإنقاذ الأمريكية من ضخ 800 مليار دولار أو ما يقارب 1000 مليار في أسواق المال عبر ضمان ودائع كبرى البنوك وشراء السندات الرديئة فهذا لن يحل المشكلة وربما سيضاعفها وسيعكسها بصورة قوية على دافعي الضرائب والمواطن العادي إذ تقوم هذه الخطط على استخدام المال العام والمخاطرة به، مما سيؤدي الى حالة ركود شاملة .

أما خطة الإتحاد الأوروبي فسواء كانت خطة موحدة ام خططاً متناثرة لن تخرج كثيراً عن مستوى خطة الإنقاذ الأمريكية فهي لا تعدو ضخ مئات المليارات في الأسواق أو تأميم بعض البنوك .

أما عن خطط الدول النامية فلا خطط لها وهي لا تملك سوى أن تتلقى الضربات مجتمعة أو متفرقة وتتكبد الخسائر المعلنة والمخفية ، فأموال هذه الدول في الغالب مستثمرة لدى المؤسسات الأمريكية وإقتصادها عالة على إقتصاديات الغرب حتى لقمة عيشها تعتمد فيها على المنتجات الغربية وعملاتها كالريشة في الفضاء الأمريكي تميل حيث الدولار يميل .


هل الأزمة الراهنة مجرد أزمة مالية أم تتعدى ذلك لتمثل بداية إنهيار المبدأ الرأسمالي؟

من التواضع أن نسمي الأزمة الراهنة بالأزمة فهي أكبر من الأزمة بكثير لذا أسماها البعض بتسونامي والبعض الآخر بالإعصار المالي مما يدلل على عمق هذه الأزمة سيما وانها لازالت في بداياتها وأن كل ما نسمع عنه من خسائر هي الخسائر المعلنة فقط وأؤكد المعلنة فقط والمخفي أعظم وما ذلك إلا لعدم قدرة هؤلاء على الإفصاح عن حجم الخسائر الكارثية التي ألمّت بهم لئلا يؤدي ذلك الى فقدان ثقة شعوبهم بهم وبالتالي يسرع في إنهيار إقتصادياتهم ، ومن الخطأ الفادح أن نظن بأن الدول الرأسمالية ستتعافى من هذه الأزمة وستعود لسالف عهدها ، كما من غير الدقة أن نظن ان سقف هذه الأزمة سيكون الكساد الكبير الذي أصاب أمريكا والعالم عام 1929م ، والحقيقة أن هذه الأزمة تفتقر الى تسمية جديدة تخرج عن قاموس المصطلحات المستعملة ولا أجد لها من تسمية سوى بداية إنهيار الرأسمالية أو بداية غرقها في الإنهيار أو سقوطها في واد سحيق .

فما دلائل ذلك الإنهيار وما الفرق بين هذه الأزمة والأزمات المالية السابقة ؟
للأجابة على هذا التساؤل أسلط الضوء على جوانب مبدئية واضحة صاحبت هذه الأزمة ولم تصاحب مثيلاتها من قبل ولم تصاحب أزمة عام 1929م وهذه العوامل هي التي جعلت من هذه الأزمة علامة فارقة ومفصلاً مهما في تاريخ الرأسمالية .
من هذه الأمور :

1. نسبة قادة الغرب أسباب الأزمة لطبيعة النظام المالي الرأسمالي ومطالبتهم بوضع نظام مالي جديد ، فقد صرح الرئيس الفرنسي ساركوزي أكثر من مرة بان العالم بات بحاجة الى نظام مالي جديد ، وكذلك المستشارة الالمانية انجيلا ميركل فقد صرحت بأن هناك حاجة لوضع قواعد عالمية جديدة للنظام المالي ، وكذا رئيس الوزراء البريطاني براون ، كما دعا رؤوساء الدول الأوروبية الى إجتماع عالمي في نيويورك –منطلق اتفاقية بريتن وودز- في منتصف نوفمبر لمناقشة وضع قواعد لنظام مالي جديد .
2. سلوكيات الحكومات الرأسمالية التي تجاوزت المفاهيم الأساسية التي ينص عليها المبدأ الرأسمالي من قيام هذه الحكومات بالتدخل في الأسواق المالية بصورة مباشرة وتأميم كبرى البنوك سيما في أوروبا وهذا إن دل فيدل على عمق الأزمة التي دعت هؤلاء الى التنازل عن أهم أفكار المبدأ الرأسمالي "حرية السوق" وألجأتهم إلى ( التأميم ) من بقايا المبدأ الشيوعي الذي انهار من قبلهم فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار .

3. فقدان الثقة بالمبدأ الرأسمالي وقدرته على معالجة الأزمة مما دعا مفكري الغرب الى التصريح بدنو انتهاء الحقبة الرأسمالية ومطالبة بعضهم باللجوء الى الإسلام لحل الأزمة الراهنة حتى دعا ذلك منظر الرأسمالية فوكوياما بالقول أن بعض أفكار الرأسمالية قد سقط جراء الأزمة الحالية وغيره من الكتاب الغربيين الذي أشادوا بالنظام الإقتصادي الإسلامي بإعتباره النظام الذي يمكن أن ينقذ البشرية. وفي افتتاحية مجلة "تشالينجز" كتب رئيس تحريرها، بوفيس فانسون، مقالا بعنوان (البابا أم القرآن) تساءل فيه عن "أخلاقية الرأسمالية"، وقال "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود". ونقل عن رولان لاسكين رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال د فينانس" مطالبته بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة، ونقل أيضا عن لاسكين إدراجه لتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية من ضمن مقترحات وضعها للحل في مقال له بعنوان "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟"
وبالتدقيق في الأمور سالفة الذكر يتبين لنا عمق هذه الأزمة وخروجها عن مواصفات الأزمة المالية كأزمة عام 1929م وبقية الأزمات المالية السابقة لتصبح هذه الأزمة أزمة فقدان ثقة بالنظام الرأسمالي ككل وهذا يمثل بداية الإنهيار المرتقب للرأسمالية وإن كان الأمر ربما يتطلب برهة من الزمن الى حين تأهل الأمة الإسلامية لتقدم البديل والخلاص للبشرية .

أما الحل والعلاج فالإسلام وحده من يملك العلاج وهو الواقي من هذه الأزمات

فالإسلام يحوي على نظام إقتصادي متكامل كفل النمو والإزدهار الإقتصادي للمسلمين عبر القرون الماضية حتى في ظل عدم إكتشاف الخيرات والثروات في بلاد المسلمين وتاريخ الخلافة خير شاهد ، كما أن الإسلام قد استبق أية أزمة إقتصادية عبر منعه لكل مسببات الأزمات الاقتصادية:

فقد نص على أن يكون الذهب والفضة هو النقد لا غير، وأن إصدار الأوراق النائبة يجب أن تكون مغطاة بالذهب والفضة بكامل القيمة وتستبدل حال الطلب. وبذلك فلا يتحكم نقد ورقي لأية دولة بالدول الأخرى، بل يكون للنقد قيمة ذاتية ثابتة لا تتغير.
ومنع الربا سواء أكان ربا نسيئة أو فضل، وجعل الإقراض لمساعدة المحتاجين دون زيادة على رأس المال، وفي بيت مال المسلمين باب لإقراض المحتاجين والمزارعين مساعدة لهم دون ربا.

ومنع بيع السلع قبل أن يحوزها المشتري، فحرم بيع ما لا يملك الإنسان،وحرم تداول الأوراق المالية والسندات والأسهم الناتجة عن العقود الباطلة، وحرم وسائل النصب والاحتيال التي تبيحها الرأسمالية بدعوى حرية الملكية.
ومنع الأفراد والمؤسسات والشركات من امتلاك ما هو داخل في الملكية العامة، كالبترول والمعادن والطاقة والكهرباء المستعملة في الوقود... وجعل الدولة تتولاها وفق الأحكام الشرعية.

وهكذا فقد عالج النظام الاقتصادي الإسلامي كل اضطراب وأزمة في الاقتصاد تسبب شقاء الإنسان، فهو نظام فرضه رب العالمين الذي يعلم ما يصلح مخلوقاته (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).

بيد أن النظام الإقتصادي الإسلامي لن يؤتي ثماره مستقلاً عن العقيدة التي انبثق عنها ولن يصلح شأن البشر إن هم زاوجوا بينه وبين عقيدة أخرى كعقيدة فصل الدين عن الحياة ، بل لن يكون خلاصاً لهم إلا إن طبق في دولة تعتنق عقيدته وتطبق نظامه وتحمل الإسلام الى العالم رسالة خير وهدى ، وهذا كله يلقي العبء الأكبر على المسلمين أكثر من ذي قبل، فلقد بات خلاص البشرية وإنقاذها مما تعانيه أمانة في أعناقهم فوجب عليهم التحرك سريعاً لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة ليخلصوا أنفسهم والبشرية من الضنك الذي يحيوه ، فيكونوا بحق رواد البشرية كما كانوا طيلة ألفٍ وأربعمئة عام ويكونوا مشاعل هداية كما وصف ربعي بن عامر الأمة الإسلامية بقوله (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).

نتائج الانتخابات الأمريكية هروب من الفشل

نتائج الانتخابات الأمريكية ...هروب من الفشل

لقد شغلت الإنتخابات الأمريكية مساحة كبيرة في الإعلام بشتى وسائله ، كما دفعت نتائجها الكثير من الكتاب والصحفيين للكتابة حول التجرية الأمريكية ، فتعالت بعض الأصوات التي تكيل المديح للديمقراطية الأمريكية ولبلد الفرص وهنأ البعض أمريكا في انتصارها على فكرة العنصرية كما علق البعض آمالاً عريضة على قدوم التغيير لأمريكا وسياساتها في العالم ، وغير ذلك مما تفتقت عنه أذهان المحللين والكتاب والصحفيين ، بيد أنه من غير الطبيعي ولا من سداد الرأي والحكم أن يتم فصل الإنتخابات الأمريكية الحالية عن الظروف والملابسات التي تحيط بأمريكا اليوم ، كما من غير الدقة تجاهل حقائق يراها كل مبصر ومتتبع للسياسة وللسياسة الأمريكية على وجه الخصوص .


أما الحقائق المتعلقة بالسياسة الأمريكية فهي :

• إن الحكام الحقيقيين لأمريكا هم الرأسماليون المتنفذون أصحاب كبرى الشركات الأمريكية كشركات النفط وشركات صناعة السيارات وكبرى البنوك والمؤسسات المالية وغيرها ، ويظهر ذلك جليا في دعم هذه الشركات للحملات الإنتخابية لمرشح دون آخر فمن المعلوم بداهة أن بدون الأموال المقدمة من الرأسماليين لا تقوم حملة انتخابية لمرشح ما بل إن مدى ما يستطيع المرشح تحصيله من أموال يعد رصيد نجاح له في عرف الانتخابات الأمريكية ولا يظن عاقل أن هذه الأموال تقدم من كبرى الشركات بدون مقابل سياسي أو اقتصادي بمعنى آخر بدون رهن للقرار بيد هذه الشركات ، كما يظهر تأثير الرأسماليين المتنفذين عبر تحكمهم بآلة الإعلام الأمريكية التي تحتل المركز الأول في تكوين الرأي العام الأمريكي .

• إن السياسة الأمريكية لا تتغير بتغير شخص الحاكم أو حزبه ، بل إن السياسة الأمريكية يتم رسمها من قبل حكام في الظل وموجهيين سياسيين ولكن يختلف أسلوب تنفيذ هذه السياسة من حاكم لآخر ومن حزب لآخر فالاختلاف ليس جوهريا بل شكلياً وبحسب طبيعة كل مرحلة تمر فيها السياسة الأمريكية يتم دعم مرشح أو حزب على آخر ليضطلع بتنفيذ الأجندات السياسية المرسومة مسبقاً .

• إن العنصرية في أمريكا لا يمكن أن تزول بمجرد إستلام حاكم ملون للحكم فيها فهي متجذرة في المجتمع الأمريكي بصورة قوية وما الكشف عن محاولة اغتيال أوباما في فترة الحملة الانتخابية وما الحراسة المشددة التي حظي بها خلاف ماكين إلا إشارة على عمق مفهوم العنصرية في الشعب الأمريكي كما أن الواقع العملي يثبت تكريس هذه العنصرية فأكبر نسبة بطالة في أمريكا في أوساط السود وأكبر عدد جريمة يقع في أوساط السود و80% من المعتقلين في السجون الأمريكية من السود ، فالعنصرية مجسدة عملياً، وما الإتيان بحاكم أسود سوى تضليل ليظن البعض بأن أمريكا قد تخلت عن عنصريتها .

أما الظروف والملابسات التي تعيشها أمريكا اليوم فهي :

• تعيش أزمة مالية خانقة أتت على اقتصادها ، عجز كبير في الموازنة ليس له مثيل من قبل ، وهي تخشى حالة الكساد التي يمكن أن تعم الإقتصاد الأمريكي.
• مشاكل داخلية صعبة تتمثل في موضوع التأمين الصحي والضرائب .
• إخفاق عسكري وحرب استنزاف في كل من العراق وأفغانستان وعجز عن تحقيق النصر الذي طالما وعِد به الشعب الأمريكي .
• انحدار في سمعة أمريكا عالمياً على المستوى الإنساني والأخلاقي ، فلقد أصبح غوانتاناموا وبلغرام وأبو غريب هي الماركة المسجلة لأمريكا التي لا ينافسها فيها أحد .
• انحدار في التقيد بمفاهيم الحريات الغربية فلقد بات انتهاك الحريات للشعب الأمريكي نهجاً لإدارته وحكامه فسمح بمراقبة الهواتف والاطلاع على الملفات السرية الخاصة بكل مواطن أمريكي .

هذه هي الظروف والملابسات التي احاطت بالانتخابات الأمريكية وهي تعبر عن حالة فشل في المبدأ والسياسة ، فعلى صعيد المبدأ بان للعالم بأن الديمقراطية الرأسمالية ليست سوى أداة لجلب الكوارث وعاملاً محفزاً للأزمات المالية والإقتصادية وأنها سببت المصائب للبشرية وسلبت منهم أدنى مقومات الحياة والكرامة وها هم روادها يقفون حيارى عاجزين عن معالجة الأزمة المالية الراهنة وما خلفته وما يمكن أن تخلفه مستقبلاً ، ولا عجب في ذلك فالرأسمالية متهافتة فكرياً ولكن بان فشلها اليوم عملياً في أرض الواقع ، وأما السياسة فأمريكا لم تعد قادرة على لعب دور الشرطي العالمي فحرب العراق وأفغانستان قد استنزفتها وأثبتت للعالم عجزها وخوارها فسبع وخمس سنوات لم تكفها لإنجاز مخططاتها في كل من افغانستان والعراق.

في ظل هذه الأجواء السوداوية لأمريكا غير المسبوقة احتاج الشعب الأمريكي لطفرة غير مسبوقة فكان استجلاب حاكم ملون للبيت الأبيض ظناً منهم أن هذه الطفرة ستغطي على بعض الأزمات المبدئية والسياسية التي تمر فيها أمريكا ، فحقيقة هذه الإنتخابات كانت هروباً من الفشل ، فأدوات النجاح لم تعد ملكاً لا للرأسمالية ولا لأمريكا ، ومخطئ كل من ظن أن تغيراً سيطرأ على السياسة الأمريكية وأن نهجاً وتوجهاً جديداً سيطغى على سياسة أمريكا تجاه العالم وتجاه المسلمين على وجه الخصوص ، فالحرب على "الإرهاب" ستستمر وحرب العراق وأفغانستان ستستمر وسياسة أمريكا تجاه الشرق الأوسط ستبقى على حالها .

إن الإتيان بحاكم ملون ما هو-في جانب منه- إلا محاولة لإسترضاء العالم الذي ضاق ذرعاً بأمريكا وبسياسات بوش طوال السنوات الثماني المنصرمة ، فهو محاولة لإستعادة "المكياج" للهيمنة الأمريكية من جديد ، لكن مع كل الظروف والأحوال التي ذكرناها آنفاً لن يجد أوباما ومن أتى به سبيلاً للنجاح .

إن الأمة الحية هي التي تستطيع أن تتغلب على مصاعبها بحكمة واقتدار ، وما نراه في امريكا اليوم من عجز وضعف وخداع وتضليل يبرهن القول بأنها ومبدأها في حالة تداعي وانهيار ، بيد أن الأمر يتطلب برهة من الوقت الى حين بروز قوة بديلة وأمة رائدة جديدة ولن تكون هذه الأمة سوى الأمة الإسلامية التي لعبت هذا الدور بكفاءة من قبل وستعود لتلعبه عما قريب-بإذن الله-فتخرج البشرية من الضنك والكارثة والظلمة التي تعيشها الى عدل وطمأنينة ونور الإسلام .

لذا على الأمة الإسلامية أن لا تعلق آمالاً على حاكم هنا أو هناك من دول الغرب أو أن تبقي أبصارها شاخصة قبل المشرق أو المغرب ، وان تدرك ان هذا التطلع والتعلق يعني تكريس التبعية والاستمرار في أن تكون محلاً للحدث لا صانعة له ، إن على الأمة الإسلامية أن تعمل جاهدة لتقتعد مكان الصدارة بين الأمم فتكون محل أنظار العالم وأفئدته وسبيله للنجاة ولن يكون ذلك إلا عبر بوابة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.