التطبيع السياسي في مزاد حوار الأديان

بسم الله الرحمن الرحيم

التطبيع السياسي في مزاد حوار الأديان

إن فكرة حوار الأديان التي ذاع صيتها في عصرنا الراهن فطغت على الحكام والعلماء الذين يسايرونهم في سياساتهم، وأصبح المصنفون بـ"المعتدلين" ينادون بها صباح مساء ، هي فكرة غربية خبيثة يراد منها حرف المسلمين عن جادة الصواب وزيغهم عن دينهم الحق ، ولقد حملت مؤتمرات الحوار بين الأديان دلائل هذا القول في أطروحاتها التي نادت بها طوال العقود الماضية ، فمن حيث النشأة فقد بدأت هذه الفكرة بشكل دولي عام 1932م عندما بعثت فرنسا ممثلين عنها لمفاوضة رجال الأزهر في فكرة توحيد الأديان الثلاثة ، الإسلام والنصرانية واليهودية ، ثم تتابعت المؤتمرات في هذا الشأن في عام 1933م فمؤتمر باريس ، ودعوة البابا لحوار الأديان عام 1964 ، ....، الى آخر مؤتمر عقد في نيويورك في مقر الجمعية العمومية للأمم المتحدة بدعوة من ملك السعودية عبدالله بن سعود ، أما الأفكار التي تسعى هذه المؤتمرات الى تكريسها فتدور – بحسب المنظرين والمروجين لها -حول أهداف ثلاثة وهي :

أولاً :التساوي بين الاديان و بين الحضارات و عدم التفاضل بين دين و دين أو حضارة و حضارة .
ثانياً :قبول الآخر كما هو و استكشافه دون اصدار أحكام ضده بل ادراك ما عنده دون قيد او شرط .
ثالثاً:التفاعل لايجاد بديل حضاري أرقى عن طريق استلهام ما هو مشترك بين الحضارات و الاديان .

ولا يخفى على كل منصف ومفكر خطورة هذا الطرح على الفكر الصحيح ومجانبته للتفكير السليم ، فالدعوة للمساواة بين الأديان هي دعوة لطمس الحقيقة إذ أن الأديان-بشكلها الراهن- تحمل بذرة الإختلاف والتباين فيما بينها وكلٌ من حملتها يدّعي الصحة وخطأ من سواه ، والحقيقة هي أن إحداها هو الحق والصواب وهو ما قامت الأدلة والبراهين على صحته وصدقه وإقناعه للعقل وموافقته للفطرة ، وما لم يقوَ على المحاججة سقط من الاعتبار ، كما أن في قولهم بضرورة استكشاف الآخر دون الرد عليه أو إصدار أحكام ضده هو جعل الفكر الحق بلا قيمة ، فصحة فكر يعني خطأ ما يخالفه وإلا لم يكن صحيحاً فعدم الاعتماد على هذا الفكر الصحيح في إصدار الأحكام يجعل صحته بلا قيمة ، وأما ثالثة الأثافي وهي الدعوة لاستلهام ما هو مشترك بين الأديان والحضارات فهو بلا شك دعوة لتكوين دين هجين يُستمد من مشارب مختلفة وأفكار انبثقت عن عقائد متباينة وأنىّ لمثل هذه الأفكار أن تتلاقى في منتصف الطريق علاوة على أن ينشأ منها دين جديد .

هذا من وجهة نظر عقلية ، أما من منظور الشرع فلا حوار بين الأديان إلا بدعوة أتباعها لإعتناق الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحجة (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فالدين الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) وهو المعتبر دون غيره (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) لذا دعا الإسلام أهل الأديان الأخرى الى كلمة التوحيد دون سواها والى إعتناق الإسلام دون إجبار أو إكراه بل بالحجة والبرهان (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) .
فالحق والباطل في نظر الإسلام لا يلتقيان (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) فكيف بالتساوي بينهما (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ) ، فدعوة الإسلام قائمة على إثبات صحته وبيان خطأ الأطروحات الأخرى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
أما إستكشاف الآخر دون الحكم عليه فخلاف أسلوب القرآن في الدعوة الذي دأب على تفنيد طرح العقائد الأخرى وبيان زيفها وأصدار حكمه عليها (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
وأما التفاعل لإيجاد بديل حضاري (دين) جديد فما ذكر من نصوص تدحض الأطروحات الأخرى وتثبت صحة الإسلام واعتباره الدين دون غيره يكفي للرد على هذه المقولة .

إن خطورة فكرة حوار الأديان على المسلمين بوجه الخصوص كونهم المستهدفين من هذه الفكرة هي خطورة عظيمة سيما والمسلمون بلا كيان يذود عنهم ويتبنى قضاياهم ويحمل دعوتهم ويتصدى لهذه الحملات الفكرية ، فالمسلمون اليوم هم الحلقة الأضعف لأنهم أمة بلا راع ولا إمام ، ولأنهم وحدهم الذين يمثلون البديل الحقيقي الذي يخشاه الغرب قاطبة إن قامت لهم دولة ، لذا كانت سهام الغرب مصوبة دوماً نحو قلب الأمة الإسلامية وكانت محاولاتهم التي لم تنقطع بأساليب ووسائل شتى تهدف الى تضليل المسلمين وإبعادهم عن الفهم الحق لدينهم فصوروا لهم دينهم بانه دين كهنوتي لا دخل له بالسياسة وسخر الغرب لهذا الغرض جيشاً من الحكام والمفكرين والإعلاميين الذين يحملون فكره ، بل إنهم ابتكروا التسميات والمؤتمرات الكثيرة خدمة لهذا المسعى ولعل مؤتمر الوسطية الذي عقد في عمان مؤخراً هو دليل استجابة البعض للأطروحات الغربية .

هذه لمحة موجزة عما يراد من مؤتمرات ودعوات حوار الأديان وهذا غيض من فيض من مخاطرها التي حاول البعض أن يكسوها بثوب الإسلام تحت ذرائع ومبررات واهية ، لكن الغرب -عبر أدواته من الحكام وعلماء السلاطين- وفي سابقة جديدة لم يكتف بهذه المخاطر الفكرية وهذه الدعوات الهدّامة بل أضاف لها بعداً آخر ألا وهو البعد السياسي فقد مثّل مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في نيويورك في الثاني والثالث عشر من الشهر الحالي مزاداً، سوّق فيه الحكام حكامَ "اسرائيل" للدول العربية وبقية العالم ، فقد تمت دعوة الرئيس الإسرائيلي بيرس ووزيرة خارجية "إسرائيل" ليفني وهذه دعوة سياسية من الطراز الأول فليس من المعلوم والمعروف عن بيرس وليفني تدينهما وتمسكهما باليهودية بقدر علمانيتهما فلم تكن هذه الدعوة سوى تطبيع مع اليهود من الدرجة الأولى ، وليس ذلك غريباً على ملك السعودية الذي عرض على "إسرائيل" تطبيعاً كاملاً مقابل السلام فها هو اليوم يقدم التطبيع بالمجان !!!

إن هذا البعد قد كشف الغرض من وراء هذه المؤتمرات فوق تعريتها ولقد أصبح ظاهراً للعيان أن كل تصرف وكل حركة وكل خطوة يقوم بها الغرب لها بُعد مبدئي يدخل ضمن حلبة صراع الحضارات المستمر بينه وبين المسلمين وأن الغرب لا تغفل له عين عن مراقبة تغير وتطور أحوال الأمة الإسلامية حتى في ظل أزماته المالية الخانقة ، فالمسلمون يمثلون الشغل الشاغل والهم القاتل للغرب لأن الغرب يرى فيهم المنافسين الحقيقيين والأكفاء لإستلام دفة مركب البشرية وزمام القيادة ، فهلاّ تفطن المسلمون لذلك ووعوا مكانتهم بين الأمم وسعوا الى تسنم ذرى المجد من جديد ؟

ليست هناك تعليقات: