منكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان

بسم الله الرحمن الرحيم

(منكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان)

تنتاب الأمة الإسلامية اليوم حالة من الضعف الفكري والتراجع الفقهي مما أدى بها الى انتكاسة في طريقة التفكير وفي كيفية التعاطي مع القضايا والحوادث المستجدة ، وفي ثنايا هذه الواقع يجد المغرضون بأنواعهم المتعددة ( سيئو النية والجهال المنقادون وراء رؤوس شياطنية والمتغربنون الذين يرون في الغرب ما يسد أفقهم ويملأ قلبهم وعقلهم إجلالاً وإكباراً له ولحضارته ) في هذه الثنايا يجد هؤلاء التربة خصبة لتضليل الأمة وتحريف دينها وثنيها عن جادة الحق والصواب ، وذلك بتأوليهم للأحكام وإلباسهم الباطل لبوس الحق تارةً ، كترويجهم للديمقراطية الكافرة باسم الشورى ، وكتحليل الحرام باسم المصلحة تارة كإباحتهم للربا لأجل شراء المسكن وتغييرهم للأحكام ومناقضتهم لنصوص التنزيل بزعم تغير الاحكام بتغير الزمان والمكان تارة أخرى .
لذا-وذوداً عن هذا الدين الحنيف وسعياً لتبصير المسلمين بأمر دينهم لئلا يقبلوا الغث في ثنايا السمين ولئلا ينخدعوا بخدع المراوغين والمنافقين- رأينا أن نقف عند قاعدة يعتمد عليها هؤلاء في تضليل الأمة وحرفها عن أحكام دينها ،هذه القاعدة المسماة بـ(لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان).

إن جذور هذه القاعدة تعود الى اعتمادها كقاعدة شرعية في المجلة العدلية في آواخر الدولة العثمانية وقد أستند القائلون بها الى آراء مغلوطة منسوبة الى علماء من سلف هذه الأمة وأبرزهم ابن القيم والقرافي وابن عابدين ، ويعبر عند علماء السلف عن هذه القاعدة بتسمية أخرى وهي (تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان) وقد أفرد ابن القيم رحمه الله في كتابه (أعلام الموقعين) فصلاً بعنوان(تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد) ، غير أن ما يذهب إليه المعاصرون لا يمت بصلة لما قاله سلف هذه الأمة بل كان قولهم مغالطات إعتمدت على تشابه الألفاظ والعبارات برغم تغاير المعنى والمدلول . وبيان ذلك يتجلى في أقوال كلٍ من السلف والمعاصرين ، وسنورده في حينه .

أما أدلة القائلين بتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان ، فأهمها ما يلي :

1. اجتهادات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في رفع القطع عام المجاعة وعدم إعطاء المؤلفة قلوبهم وعدم تقسيم سواد العراق على المقاتلين .
2. تغيير الشافعي لكثير من آرائه ، حتى أصبح له في كل مسألة تقريبا رأيان ، واحد قال به في العراق وثانٍ قاله في مصر .
3. أحادبث يستدلون بها على القاعدة منها حديث إدخار لحوم الأضاحي وتغير حكمها .
4. استدلالهم بقوله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (الأنفال: 65)، ثم قال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين).

هذه هي أهم ادلة القائلين بهذه القاعدة وبالتدقيق فيها يتبين أن لا حجة فيها جميعاً على تغير الحكم بتغير الزمان أو المكان وبيان ذلك ببعض من التفصيل :

1. إن هذا التأصيل يؤسس لإعتماد أدلة أخرى في إثبات الأحكام الشرعية إذ جواز تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان يجعل المرء مضطراً للبحث عن أدلة مستحدثة ليغطي شرعية الاحكام المستجدة وهذا يعني ابتكار أدلة جديدة ، وشرعية هذه الأدلة يحتاج الى نصوص وحجج قطعية وهذا ما لم يتوفر في كل الأدلة التي ساقها القائلون بهذه القاعدة .

2. إن اجتهادات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم تخرج عن كونها فهماً شرعياً لأحكام شرعية ، فرفعه لحد القطع في زمن المجاعة ليس تغييراً لحكم السرقة ولا حتى لعقوبتها بل هو حكم مستثنى من عموم أدلة القطع وقد انعقد اجماع الصحابة على ذلك ، وأما عدم إعطائه الزكاة للمؤلفة قلوبهم ، فهذا يتضح من فهم واقع المؤلفة قلوبهم من أن الدولة تعطيهم لتستقوي بهم في حالة ضعفها فإذا زالت حالة الضعف هذه زال الوصف عنهم . واما تقسيمه لسواد العراق فليس تغييراً لحكم شرعي بل اجتهاد في النص وانطباقه على الواقع وفهماً للآية القرآنية (ما أفاء الله على رسوله فلله والرسول....والذين جاءوا من بعدهم).

3. أما تغيير الشافعي لإجتهاداته فعلاوة على أن قول الصحابي ليس بدليل ومن باب أولى أن قول الشافعي ليس بدليل فإن ما فعله رضي الله عنه لم يكن سوى تغيير لآرائه لانه قد ثبت له صحة أحاديث لم تصله في العراق وتبين له صحتها في مصر وليس لعامل الزمان أو المكان علاقة بالموضوع .

4. إدخار لحوم الأضاخي لم يتغير حكمه بل هو معللٌ لأجل الدافة فلما زالت العلة زال الحكم وإذا عادت العلة عاد الحكم وليس هناك من رابط للحكم بالزمان أو المكان لا من قريب ولا من بعيد .

5. وأما استدلالهم بالآية القرآنية (الآن خفف الله عليكم) فليس في النص تغيير ولا تبديل بل فيه حكمان لحالتين مختلفتين في مبادئة الكفار بالقتال أولاهما حالة نشوء الدولة والحاجة لتثبيت أركانها وتوطيد بنيانها ففرض الله عليهم القتال بنسبة 10:1 والثانية بعد استتباب الدولة فرض عليهم القتال بنسبة 2:1 وليس لعامل الزمن الصرف أية علاقة بتغير هذا الحكم.
وأما استدلالهم بأقوال ابن القيم والقرافي وابن عابدين ، فلا يتسع المقام لذكر أقوال هؤلاء العلماء الأجلاء لنبين الفرية التي يفتري بها أدعياء العلم في هذا الزمان على علماء الأمة غير أننا نقول في هذه العجالة أن رأي ابن القيم رحمه الله لم يتطرق لتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان بل كان حديثه منصباً برغم استعماله لعبارات مشابهة لقول هؤلاء كان قوله متعلقاً بضرورة أن يفهم المفتي تغير الواقع الذي ينزل الحكم عليه وهو المعروف لدى الفقهاء باسم تغير مناط الحكم لذا عنون بابه بالقول(تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد) فحديثه عن تغير الفتوى اذا تغير واقع مناطها ، فالعنب إذا تخمر حرم واذا تحول الى خل ابيح ولا يعارض هذا القول فقيه . وأما اقوال القرافي وابن عابدين فلم يذهبا بعيداً عما ذهب إليه ابن القيم في أن الأحكام المتعلقة بأقوال الناس وألفاظهم تختلف إذا اختلفت معاني هذه الأقوال والألفاظ. فقد تكون الألفاظ واحدةً، ولكن معناها عند قوم يختلف عن معناها عند غيرهم، وقد يكون للَّفظ معنىً في اللغة، ومعنىً آخر في الاصطلاح، أو في العرف الاستعمالي. وقد يعتمد المعنى على قرائن الأحوال التي قد تختلف دلالاتها بين قوم وغيرهم، وقد يعتمد على النيَّة. فإذ اختلفت معاني الألفاظ والجُمل، فإن الأحكام التي كانت هذه المعاني مناطاً لها تختلف تبعاً لذلك. وهذا يدخل في ألفاظ النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذور، والأيْمان، وسائر العقود، وفي الأفعال التي تصبح ملازمة عند بعض الناس لأفعالٍ غيرها، أو ذات دلالة على مقاصد أو معانٍ معينة. كدلالة لباس معين على الزفاف، وغيره على الحداد، وآخر على أن لابسه طبيب، أو جندي، أو شرطي... فعلى سبيل المثال، اللباس الذي يختص به الطبيب هو في الأصل جائز، وجائز لأيٍ كان. ولما ارتبط هذا اللباس بمعنىً معين وهو أن لابسه طبيب، صار إذا لبسه غير الطبيب، ليوحي للناس أنه طبيب، حراماً، وليس ذلك من باب تحريم المباح، وإنما من باب تحريم الغش والخديعة، وهو حكم عام وثابت ولا صلة للأمر بزمان أو مكان.

ثم إن القول بجواز تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان يعارض أساسيات في هذا الدين منها
• نسبة الأحكام للشارع ، إذ الوحي قد انقطع وتغير الاحكام يعني تبدلها واستحداث احكام جديدة مما يقود الى جعل العقل هو الحكم بدل الشرع، وتعريف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع وليس خطاب العقل أو المصلحة (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).
• اكتمال الدين ، والتغير بعد الاكتمال اتهام للشريعة بالنقص ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5) وقال سبحانه (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)
• قول الرسول عليه السلام ، الحلال بين والحرام بين ، ومع تغير الاحكام لا يصبح الحلال ولا الحرام بيناً "الحلال ما احل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه " والتغير والتبدل يفقد الحلال والحرام وضوحهما .
• أن الحكم الشرعي قد عالج الانسان بوصفه انساناً ولم يعالج مشاكله باعتبار فرديته والظروف المحيطة به من زمان أو مكان(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) .


إن القول بجواز تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان يعتبر تأصيلاً لمذهب جديد لا بل لدين جديد يتخذ من العقل والمصالح دليلاً يعارض به نصوص التنزيل فيلغيها ويبطل مدلولها واسمعوا ان شئتم قول أحد المعاصرين المروجين لهذه القاعدة حيث يقول ( إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير ولم تكن إلا حلولا مؤقتة ، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم ، فليست بالضرورة ملزمة لنا ، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغير ، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه) فجعل مخالفة النصوص وتغييرها ليس أمراً جائزاً فحسب بل هو أمرٌ واجب ؟!

إن دعاة تغيير الأحكام وتبديلها لا يخرجون عن وصف المحرفين الضالين المضلين ، بل إن عملهم هذا يأتي في ظل حملة أمريكية مسعورة لتغيير أحكام هذا الدين وحرفه باسم التجديد وتغيير الخطاب الديني والعصرنة ومرونة الشريعة وصلاحيتها للتشكل مع كل واقع ، مما يلقي بظلال الشك والريبة بل قل التهمة لهؤلاء من أنهم أصبحوا اداة طيعةً بيد طاغوت هذا الزمان ، لذا فالحذر الحذر من هؤلاء ودعوتهم ولا يغرنكم حلاوة لسانهم ولا طول لحاهم وتمسكوا بأحكام دينكم وكونوا حراساً أمناء أتقياء ، واسعوا الى إقامة صرح الخلافة التي توجد هذا الدين مجسداً في أرض الواقع لتفوزا بالدارين .

ليست هناك تعليقات: