لا عدوى ولا محاكاة بل أمة واحدة


لا زالت الثورات في البلاد العربية تتوالى تترى، ولا زالت تحمل في طياتها بشائر الخير العميم ليس أقله كسر حاجز الصمت وتطلع الأمة نحو استعادة مكانتها الريادية.

ومما رسّخته هذه الثورات على اختلافها ودلت عليه بشكل لا يقبل التأويل هو وحدة الأمة في فكرها ومشاعرها وتطلعاتها بل وتحركاتها.

فلا يخفى على أحد أن القوى الغربية الاستعمارية بذلت على مدار عقود بل قرون خلت جهوداً جبارة مضنية هدفت إلى تمزيق وحدة هذه الأمة في سبيل النيل منها وتشتيت جهودها لكيلا تعود أمة القيادة والريادة،

فمنذ أن هدمت الخلافة، سعت القوى الاستعمارية بأدواتها الوضيعة إلى ترسيخ تمزيق الأمة وإلى تكريس فرقتها، فأنشأت الحدود والسدود، ووضعت لكل مزقة من هذه المزق علماً ونشيداً وطنياً وحدوداً وهمية، ونصبت ناطوراً يحافظ على فرقة كل بلد وتشتته، وسعت إلى ترسيخ هذه الفرقة تحت شعار السيادة الوطنية ومصالح البلاد، والأهداف العليا للشعب وما شابه ذلك من شعارات جوفاء؛ فذاك.... الأردن أولاً وهذا فلسطين للفلسطينيين وآخر اليمن أولاً ...ومصر أولاً واخيرا وغير ذلك من الترّهات.
وطيلة عقود مضت بقيت تلك الغيمة القاتمة تسيطر على المنطقة وتحجب الرؤية الواضحة حتى ظنّ الناس أن أهل الأردن لا دخل لهم بأهل فلسطين ولا يكترثون بشأنهم إلا في حدود اهتمام الجار بجاره أو أقل، وأن تونس لا يمكن أن تنشغل يوماً بليبيا ففيها ما يشغلها، وأن مصر في منأى عما يدور في البحرين البعيدة و...

واستمر الحال كذلك حتى هبّت رياح التغيير على المنطقة والتي كشفت ما سعى الحكام والأنظمة لطمسه، وأعلنت فشل تلك الجهود التي بُذلت، فأتت تلك الرياح على البقية المتبقية من الغبار الذي علا وحدة الأمة فأزالته، فإذا بها تكشف عن معدن الأمة الحقيقي والنقي، معدنٌ صُهر في بوتقة الإسلام دون أن تخالطه مصالح أو أهواء.

لقد أبانت أحداث ليبيا ومن قبلها مصر وتونس أن هذه الأمة هي أمة واحدة، في فكرها وفي مشاعرها وفي تطلعاتها وفي تحركاتها، وليس من دقة التشخيص أو صواب الوصف ما تردده وسائل الإعلام من أن هذه الشعوب تحاكي بعضها بعضاً بل إن هذه الشعوب هي أمة واحدة تمتلك نفس الفكر والشعور ونفس التطلع وتتحرك كتحرك الجسد الواحد، فهي تشعر بالظلم والضيم في كل بقاعها في آن، وتثور على الظالمين في آن، وتدبّ فيها الحياة في آن، وهو ما يفسر تحرك تلك الجماهير في بلدان عربية عدّة للتخلص من ربقة الاستعمار ونفوذه، وهو ما يفسر تفاعل المسلمين في كل المعمورة في الاحداث في كافة البلدان الثائرة وفرحتها عند رحيل الطغاة؛

فليس من الطبيعي أن تتحرك شعوباً مختلفة في آن واحد لغاية واحدة ولهدف واحد وهو التخلص من الظلم والانعتاق من التبعية والتطلع نحو التغيير الحقيقي ما لم تكن تلك الشعوب أجزاءً من جسد واحد فرقتها الحدود الوهمية، تشعر بنفس الشعور ويسيري فيها الإحساس الواحد كما تسري الدماء في العروق.

إن القوى الغربية الاستعمارية وأدواتهم الحكام نجحت في تمزيق الأمة جغرافياً لكنها فشلت في تفريق فكرها ومشاعرها، وبقيت هذه الأمة كلٌ فكري شعوري وجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

تلك حقيقة لا يمكن للاستعمار ولا أدواتهم نزعها من هذه الامة مهما أُتوا من قوة، لن يستطيعوا ذلك ما دام في المسلمين كتاب الله ينطق (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وما دام فيهم (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) وما داموا يعوون قول الرسول الأكرم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
فلقد خسرتم الرهان أيها الكافرون المستعمرون وطاش سهمكم، فستبقى شعوب المسلمين لا العرب فحسب أمة واحدة من دون الناس، بل إن المسلمين سيلملمون شعثهم ويوحدون فرقتهم الجغرافية والسياسية في تناغم تام مع وحدتهم الفكرية والمشاعرية في ظل دولة مبدئية تحمل الإسلام رسالة خير وهدى للبشرية.

تلك هي تطلعات المسلمين في كافة ربوعهم سواءٌ أسعفتهم العبارة فعبّروا عمّا أرادوا بحق أم خانتهم العبارة فتاهوا وسط عبارات التحرر من الاستعمار والتخلص من الظلم، فالإسلام كان ولا زال سر وحدتهم، ولا زال متغلغلاً في عروقهم ولا زالت عقيدته راسخة في أعماق أعماق قلوبهم، ولولا الاسلام وحبل الله لكانت هذه الأمة من الهالكين والفانين جراء ما ألم بها من كيد ومكر، ولكنه حفظ الله لعباده الصالحين وتهيئته للأرض حتى يرثها المتقون.

(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)

حقائق نطقت بصدقها أحداث تونس ومصر


لا زالت أحداث مصر في تصاعد مستمر، ولا زالت وتيرة المغالبة تشتد وتستعر؛ أمة تريد التخلص من قيود كبلتها فأرهقتها وألصقتها بالأرض وجعلتها عالة على التاريخ وهي خير الأمم، وحكام متشبثون بكراسي الذل حتى الرمق الأخير.

لقد ضجت شوارع مصر بمسيرات مكثفة من الناس احتجاجاً على ظلم النظام وجوره، ولقد طفح الكيل بأهل مصر وهم يشاهدون نظاماً أحاطهم بالقهر والكبت طوال عقود، وكمَّم أفواههم، وأدخل الرعب في قلوب الناس بالاعتقال والتعذيب المفضي للهلاك والموت على أيدي زبانية النظام في السجون...وكذلك شهدت تونس من قبل أحداثاً مشابهة ولا زالت ذيولها قائمة على أصولها، ومن المرشح أن تنتقل عدوى التغيير لبقية البلدان العربية لما تشهده هذه البلاد من ظروف متشابهة.

ولا يخفى على أحد أن الأمة اليوم، من أقصاها إلى أقصاها، ترقب هذه التطورات وتتطلع بشغف لتغيير تلك الأنظمة التي جثمت على صدرها ردحا من الزمن، فأذاقتها لباس الجوع والخوف، وانحدرت بالأمة عن المكانة اللائقة بها، فبات المسلمون في ذيل الأمم، لا يلوون على شيء، دماؤهم مهدورة، ثرواتهم منهوبة، وهم خير الأمم وبلادهم اغنى البلدان.

 وإزاء هذه الاحداث الجسام لا بد لنا من الوقوف على الحقائق الهامة التي كشفت عنها هذه الاحداث، لتكون منارات لنا في الطريق، ولنسطرها كحقائق نطق الواقع بصدقها بعيداً عن جدلية الألدّاء وخصومتهم.

 ومن هذه الحقائق:
·       إن السلطان هو للأمة، وإن الحكام كانوا ولا زالوا يغتصبون هذا الحق، وإن الامة بيدها أن تسترد هذا السلطان، إن هي عزمت أمرها وتوكلت على ربها ولم تخش أحداً، فلها وحدها دون سواها أن تختار حاكمها طواعية وبرضا واختيار.
كما كشفت هذه الأحداث كذب دعاوى الانتخابات "النزيهة" التي تزعمها الانظمة الدكتاتورية، وأن الانتخابات لم تكن يوما، في ظل هذه الانظمة، تعبر عن تطلع الناس الحقيقي، بل هي ليست سوى ثياباً خادعة تسعى الأنظمة لتستر به سوأتها. وما جرى في مصر من انتخابات مؤخراً خير شاهد على تناقض نتائجها مع تطلعات الناس.

·       إن البطش الذي يرهب به الحكام الأمة ليس سوى حاجزاً نفسيا سرعان ما ينهار أمام أي تحرك حقيقي للأمة، لذا وجب على الأمة أن تتحلى بصفات الشجاعة والقوة، وأن تدرك بأنها قوية بدينها وإيمانها.

·       إن هذه الأحداث يجب أن تُتبع بتغيير حقيقي، ولن يكون التغيير الحقيقي باستمرار الحكم بالرأسمالية أو الديمقراطية وإلا فسيبقى الظلم والجور وإن تغيرت الوجوه، بل يجب أن يكون بالتحول نحو الإسلام وتطبيق شريعته حتى يتحقق التغيير الحقيقي والجذري.
فلقد ثبت بالفكر والواقع أن الإسلام هو المبدأ المنقذ للبشرية جمعاء مما تعانيه من واقع اقتصادي كارثي، وواقع سياسي قاتم، وحياة ضنكا، فالإسلام هو المبدأ الذي يكفل تحقق القيم البشرية في المجتمعات الإنسانية ولا يغلّب القيمة المادية على ما سواها كما تفعل الرأسمالية، والإسلام هو الذي يحقق الطمأنينة في الحياة الاجتماعية التي تفككت وتشرذمت على أيدي الرأسماليين، والإسلام هو الذي يوزع الثروة ولا يسلط وحوش المال على قوت الفقراء كما تفعل الرأسمالية.
لذا وإزاء هذا الواقع لن يكون التغيير الحقيقي سوى بتغيير أنظمة الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع وتطبيق نظام الإسلام.

·       إن أي تغيير حقيقي يستلزم أن يكون مدعوماً من قوى الجيش (أهل القوة والمنعة) وهذا يلقي بالمسؤولية على كاهل الجيش لينصر المسلمين وليحقق تطلعاتهم بتطبيق الإسلام حتى يكونوا أنصار اليوم كما كان الأنصار بالأمس.
أما فكرة حيادية الجيش فلا واقع لها، فالجيش إما ان يكون في صف الأمة وحقوقها ويلبي تطلعاتها، وإما ان يكون ركيزة من ركائز انظمة الجور والطغيان، ولولا سكوت الجيش عن نظام مبارك لما صمد ساعة من نهار أمام زحف الملايين، فنظام مبارك لا زال يقتات على دعم الجيش والذي يزعم الحيادية!!

·       لقد أثبتت هذه الأحداث مدى ارتباط الحكام والأنظمة بالقوى الغربية الاستعمارية، وأنهم لا يعدون مجرد أجراء وموظفين ومسيرين للمهام نيابة عن المستعمرين، ظهر ذلك جلياً من خلال التدخل الأمريكي المفضوح في مصر وفي تأييدهم لهذا الحاكم او ذاك، بل إن واشنطن قد انشغلت بمصر عما سواها، وعقدت إدارتها لهذا الشأن غرف عمليات دائمة، وعقدت المؤتمرات الصحفية وأرسلت المبعوثين واستقبلت الزوار "رئيس الأركان المصري"، وهي ترسم وتخطط وكأنها تدير مزرعة أو حديقة خلفية للبيت الأبيض!

·       كما أثبتت أحداث مصر أن كيان يهود هو كيان هش، وليس بعبعاً عسكرياً كما تروج له الأنظمة، وأنه لولا هذه الأنظمة التي تثبت اوتاده في الأرض لما صمد يوماً في وسط هذا البحر اللجي من المسلمين الذين يتطلعون لتحرير فلسطين، الأمر الذي أدخل الرعب في قلوب يهود وهم يرقبون ما يحدث في مصر ويخشون عاقبته.

·       إن ثمن التغيير –بالرغم من علو قيمة كل قطر دم لمسلم- هو أقل بكثير من الرضا بالواقع والعيش في ظل أنظمة الطغيان والجبروت.

إن على الأمة بأسرها أن تستغل هذه الفرصة لتحدث التغيير الحقيقي الجذري، وأن تتجه نحو عودتها أمة الصدارة وخير الامم، فالأمة بطاقاتها ومبدئها وبأبنائها، الذين بانت الأحداث عن مكنونهم ونقاء معدنهم، قادرة لأن تقود شراع البشرية نحو بر الأمان، وعلى الأمة أن تدرك أن التغيير الحقيقي سينعكس على البشرية جمعاء. كما عليها ان تتنبه لكل المخادعين الذي يسعون لوضع العراقيل في دولاب حركتها، ويسعون لتكريس الواقع والاكتفاء بتغيير مظهره الخارجي.
وبعبارة فصيحة على الأمة ان تتجه نحو تطبيق الإسلام بإقامة الخلافة الراشدة من جديد، وان لا ترضى عن ذلك بديلاً، إن هي تطلعت للتغيير الحقيقي والجذري.

كما على الحكام والأنظمة أن يدركوا بأن القطار قد فاتهم، وأنهم يسيرون عكس الجغرافيا وعكس التاريخ بل هم من مخلفاته الملوثة، وأن الأمة قد تخطت حاجز الرعب والخوف، وأن الأمة لا يمكن أن تعود إلى الوراء بعد اليوم، وليعلموا أن مصيرهم مظلم ومهما دبر لهم المستعمرون فلن يحيق مكرهم إلا بهم ولهم في الدنيا خزي ولعذاب الآخرة أشد، فهل يتعظ هؤلاء أم على قلوب أقفالها؟!
(اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)