خطبة جمعة: أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ



خطبة جمعة، مسجد السلطان محمد الفاتح، قلقيلية-فلسطين



نص الخطبة



الخطبة الأولى


الحمد لله رب العالمين، الحمد لله خالقِ الخلقِ باسطِ الرزق شديدِ المحال وأصلي وأسلم على الحبيب محمدٍ الذي جاءنا بالنور المبين الذي جاءنا بهذا الدينِ العظيم وبصرنا بالطريق المستقيم ورسم لنا المنهاج، وأشهد أن لا اله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، شهادة التجأ إليها يوم ينصب الميزان وألوذ بها يوم تزفرُ النيران واعتصم بها يوم لا يُسأل عن ذنبه انسٌ ولا جان،

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71))

اللهم هيئ لنا الخير، واعزم لنا على الرشد، وآتنا من لدنك رحمة، واكتب لنا السلامةَ في الرأي، وجنبنا فتنةَ الشيطانِ أن يقوى بها فنضعف، أو نضعفَ لها فيقوى، ولا تدعنا من كوكبِ هدايةٍ منك في كلِ ظلمةِ شكٍ منا، واعصمنا أن تكونَ آراؤنا في الحق البيّن مكانَ الليلِ من نهاره، أو تنزلَ ظنونُنا من اليقين النير منزلةَ الدخانِ من ناره، نسألُك بوجهك، ونتوسلُ إليك بحمدك، وندعوكَ بأفئدةٍ عرفتَك حين كذبَ غيرُها فأقرت، وآمنت بك فزلزلَ غيرُها واستقرت.

وبعد أيها الناس: إن أصدقَ الحديثِ كلامُ الله وخيرُ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وشرُ الأمور محدثاتُها وكلُ محدثةٍ بدعة وكلُ بدعةٍ ضلالة وكلُ ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: بأي شيءٍ كنّا أمةً دون الناس؟ وبأي شيءٍ كنا كراماً وسادة للعالمين؟ بأي شيءٍ مشى ربعيُ بن عامر على بسطِ كسرى ومزقها برمحه في عزةٍ لا نظيرَ لها، وبأي شيءٍ وطأ قتيبةُ بنُ مسلم الباهلي ترابَ الصينِ في قدرٍ ذهبي ليُبِرَ بيمينه؟ وبأي شيءٍ أصبح العربُ الرعاعُ الأجلافُ أصحابُ داحسَ والغبراء رواداً للبشرية؟ هل تحقق ذلك بعرقنا العربي؟ أو بتبعيتنا وتقليدنا لفارسَ والروم؟

قالها عمرُ بنُ الخطاب بعبارةٍ مختصرةَ الألفاظ عظيمةَ المعنى، تكشفُ السببَ الرئيس في انتقال العربِ إلى لعبِ دورٍ فريدٍ في إنقاذِ البشرية، وتكشفُ السببَ الرئيسَ في تراجعهم عن ذلك الدور وانحدارهم عنه، قال (نحن قومٌ اعزنا اللهُ بالإسلام فان ابتغينا العزةَ بغيرِه أذلنا الله).

أيها المسلمون: في بلدانِ الربيعِ العربي، وعقب ثورةِ الأمةِ على الظلم والجبروت والطغيان، يخرجُ علينا من رحم الخططِ الغربيةِ الرامية إلى اجهاضِ الثورةِ، أناسٌ وجمعياتٌ ولجانٌ ارتهنت بالغرب ورضيت بالتبعية، مهمتُها وضعُ دستورٍ جديدٍ للبلادِ الثائرة، يلتفون به على ثورةِ الثائرين ويضللون به عامةَ المسلمين، فتلك لجنةٌ تأسيسيةٌ في تونس وأخرى دستوريةٌ في مصر ولجنةٌ في اليمن وكذلك ليبيا، ويحرص المشرّعون من دون الله أن يزيحوا عن كاهلِهم "ثقلَ" بل قل شرف اعتماد دستورٍ اسلامي إذ يرون ذلك كبيرةً من الكبائرِ السياسية، ليؤكدوا مراراً وتكراراً أن الدستورَ سيكونُ دستوراً علمانياً مدنياً ديمقراطياً، أو غير ذلك من الأوصاف والنعوت، فالمهم أنه لن يكون إسلامياً، ويضللوا العامةَ بمادةٍ مفادها أن دينَ الدولةِ الإسلامُ، ودولتُهم لا تمت إلى الإسلامِ بصلة!، أو بمادةٍ تنصُ على أن الاسلامَ مصدرُ التشريع، وقوانينُ هذا الدستورِ وموادُه مستمدةٌ من القانون الفرنسي أو التشريعات الغربية الديمقراطية!. 

ووصل الأمرُ مبلغاً عظيماً، حين أعلنت حركاتٌ تسمى إسلامية أنها لن تطبقَ الشريعةَ وأن تطبيقَ الشريعة ليس وارداً في برنامجها بل ليس وارداً في نيتِها، وأعلن آخرون أنهم سيلتزمون باتفاقياتِ الصلح مع يهود مغتصبي مسرى رسول الله، وأعلن آخرون بأنهم يوافقون على أن يتولى كافرٌ حكمَ البلادِ ضاربينَ بقول الله (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) عرض الحائط، وأعلن آخرون أنهم لن يغلقوا الخماراتِ والملاهي وسيسمحون بلباس البحر ولن يلزموا امرأة بلبس الحجاب، فعن أي اسلامٍ يتحدثون؟ (كبرت كلمة تخرج من أفواههم).

أيها المسلمون: لماذا يقفُ بعضُ المسلمين من عبادِ الله موقفاً يتنصلون فيه من دينِ الله وشريعتِه؟ ويحهم!! هل بات دينُ الله معرةً وتهمة؟ أليسوا بالمسلمين؟! أليس من العدل والسنةِ البشريةِ أن يحكموا بدينهم الذي يعتنقون؟ هل شريعةُ الله عجزت عن تنظيم حياتِهم حتى يعزفوا عنها؟ أم قصرت أن تحققَ العدلَ بينهم وهي الرائدةُ في ذلك؟ أليست من لدن حكيمٍ خبير؟ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ ما لهم كيف يحكمون؟  بل هم لود الكفار يخطبون؟ وعن شريعة ربهم يعرضون؟ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

أيها المسلمون: تأتي دعواتُ الدساتير المدنية الديمقراطية، وموادِها المستوحاةِ من دساتير الدولِ الغربية، في الوقت الذي يشهدُ الغربُ فشلاً مدوياً على كل الصعد، وفي الوقت الذي باتت شعوبُه ترفعُ صوتَها عالياً ضد ظلِمه وجحيمِه، وفي الوقت الذي بات العالمُ يتطلعُ لبديلٍ حضاريٍ للرأسمالية، يخلص البشريةَ من براثِنها وضنكِها وفسادِها، فبدلَ أن يطرحَ هؤلاء الاسلامَ كبديلٍ حضاري للعالم تراهم على أعقابِهم ينكصون. وبدل أن يلبوا طموحاتِ المسلمين وتطلعِهم للحكمِ بشرعِ الله تراهم يلتفون على تلك المطالب ويشرعون من دون الله أو يقتفون أثرَ أعدائنا من الأمريكان والأوروبيين.

أيها الناس: إن شريعةَ الله حقٌ وعدل، توفر للناس حياةً كريمة، تحفظُ للناس حقوقَهم وترفعُ شأنَهم، وتطبيقُها عملياً طوال 1400 عام وما انتجه هذا التطبيقُ -بالرغم من تعثره في حقباتِ زمنيةٍ محدودةٍ- من عدلٍ أضاء العالمَ شاهدٌ على ذلك، تطبيقٌ جعلَ الناسَ يرون العدلَ بعدما فقدوه ويشعرون بالطمأنينةِ بعد خوفِهم، فلا فضلَ لحاكمٍ على عبدٍ مملوكٍ في القضاء، ولا ظلمَ ولا ضيمَ بالرعيةِ مهما كان دينُهم فكلُهم في الحقوق الرعوية سواء، وخليفتُهم يلبي استغاثةَ الملهوفين والأسرى حتى لو كان المستغيثُ ملكُ فرنسا، وبلدانهم تشعُ علماً ومعرفةً للناس أجمعين، بل إن عدلَ المسلمين ورحمتَهم شملت الدوابَ والحجرَ والشجر.

أيها المسلمون: إزاء لجانِ وهيئات وضع الدستور والجدل الدائر في البلدان الثائرة حول مواده، نؤكد على الأمورِ التالية، ليحيى من حيّ عن بينةٍ ويهلكَ من هلكَ عن بينة:

1.إن التشريعَ لله وحدَه، (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) وإن التشريعَ من دون الله جريمةٌ وأثمٌ عظيمٌ واتباعٌ للهوى، بل اتخاذٌ من دون الله أربابا وشركٌ به. دخل عديُ بنُ حاتمٍ الطائي وكان نصرانياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قولَ الله تعالى "اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أرباباً من دون الله" قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال عليه السلام: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتُهم إياهم".

2. إن الاسلامَ هو الدينُ الحقُ وما سواه باطل، وشريعتُه صالحةٌ لكلِ زمانٍ ومكان، وهي من حكيمٍ خبير، وكلُ تشكيكٍ في ذلك هو تشكيكٌ بأوامرِ الله ونواهيه التي خاطبنا بها إلى قيامِ الساعة وهو كفرٌ به، وفي ذلك الخسران المبين. 

3. إن الاسلامَ دينٌ كاملٌ غيرُ منقوص فلا يفتقرُ لشرائعَ أخرى أو تشريعاتٍ بشريةٍ وضعية، والاعتقادُ بخلاف ذلك كفرٌ صراح، أما الاجتهاد في المسائلِ المستجدةِ فيكونُ ضمنَ النصوص المستقاةِ من مصادرِ التشريعِ التي نزل بها الوحيُ لا من خارجها. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ). وقال النبيُ صلى الله عليه وسلم : ((لقد جئتكم بها بيضاءَ نقية ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك))

4. إن الاسلامَ لا يقبلُ التدرجَ في التطبيق، فتطبيق حكم وترك آخر بعد اكتمالِ الدين هو ما نهى الله عنه نهياً مغلظاً بقوله (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

5. إن دعواتِ مسايرةِ الزمان والتطور والحداثةِ أو ملاينةِ القوى الغربية والخشيةِ من تطبيق الاسلام، هو ارتهانٌ للاستعمار من جديد وهو ترسيخٌ للتبعية التي ثارت الأمةُ ضدَها، و سعيٌ لإجهاضِ ثورةِ الناس والتفافٌ على تضحياتِهم.

6. إنه لا تغييرَ جذرياً إلا بتطبيق الإسلام ودستوره المستنبط من الكتاب والسنة من جديد في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة والتي أظلنا زمانُها. وان التماسَ الخلاصِ في غيرِ الاسلامِ وشريعتِه سيبقي الناسَ يدورون في دائرةٍ مفرغة. وإن الأمةَ سرعانَ ما تكتشفُ الملتفين على الثوراتِ وتنبذُهم وتطيحُ بهم كما اطاحت بالذين من قبلهم.

وإننا نتوجه بالنداء لكل الثائرين في بلدان المسلمين بضرورة التحلي بالوعي، وأن يجعلوا ثورتَهم خالصة لله، وأن يسعوا لإقامة شرعِه حتى ينعتقوا من ربقة الكافرين المستعمرين ويعودوا خيرَ العالمين ويفوزوا في الحياة الدنيا ويومَ الدين.
أقول قولي هذا واستغر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.

الخطبة الثانية 

الحمد لله، نستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً والصلاة والسلام على نبي الهدى وإمام التقى وسيد الورى،

وبعد أيها الناس: لدينا شرعُ ربِنا فلماذا نحكمُ بشرعِ غيرنا، وهل يقبلُ الغربُ أن يحكمَ بالإسلام، فلماذا نقبلُ نحن المسلمين أصحابَ الرسالةِ السماويةِ الخالدية والشريعةِ الربانيةِ العادلة أن نحكمَ بأنظمةٍ وضعها أدم سميث وديفيد ريكاردو وجون لوك؟! أنستبدلُ الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ أنكون عبيدا لله أم عبيداً للبشر؟ أتباعاً لمحمد عليه السلام أم اتباعاً لسميث وريكاردو وذرياتهم الفاسدة؟

ولكل من يطالبُ بدستور علماني يقتفي فيه أثرَ الغربِ ويتنصل فيه من الاسلام وشريعته، نقول لهم كلمات معدودات، ماذا رأيتم من الله حتى تكرهوا شريعته؟ وماذا رأيتم من الغرب حتى تحبوا شريعته؟! أفلا تعقلون؟

نسأل الله العلي القدير أن يمن علينا بخلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة تقيم فينا شرع الله فيعز فيها المؤمنون ويذل فيها الكافرون والمنافقون إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ليست هناك تعليقات: