المسلمون وفراغ القيادة

لطالما كان لدور القائد في أي أمة من الأمم أثرٌ بارزٌ على سيرها السياسي وحسن تطبيقها لمبدئها وعلى علو أو انحدار مكانتها بين الشعوب والأمم ، لذا نرى التاريخ يخلد ذكر القادة الذي عملوا على رفع شأن أمتهم واقتعادها مكانة مرموقة ، والأمة الإسلامية واحدة من تلك الأمم بل إنها خيرها-برغم الكبوة التي تحياها اليوم- لما تحمله للأمم من الهداية والخير فهي تبذل المهج في سبيل نشر رسالة السماء التي تنير درب التائهين من البشر والذين اكتووا بلظى الرأسمالية الجشعة ونيران الشيوعية البائدة ، لذا نرى أن الأمة الإسلامية اليوم كلما ألمّ بها حادث أو أصابتها كارثة سياسية تعود بها الذاكرة الى الوراء فتتذكر القادة الأفذاذ الذين أخذوا بيدها نحو تنسم الذرى واقتعاد مقاعد العز والفخار ،

فها هي تتذكر المعتصم الذي انتصر لحرمة امرأة من نسائها وهي ترى اليوم نساء المسلمين بلا مدافع ولا حامي لهنّ ، وتتذكر هارون الرشيد مخاطباً نكفور بقوله " من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم الجواب ما ترى لا ما تسمع" وهي ترى حكامها اليوم لا يتقنون سوى لغة التوسل والانبطاح والتخاذل ، وتتذكر خالد وأبو عبيدة والظاهر بيبرس وقطز وهي ترى قادة الجند في بلاد المسلمين اليوم يقتعدون الخدور قواهم خائرة لا قوة فيهم ولا حيلة فلا يحركون ساكناً تجاه نساء المسلمين اللاتي يرملّن ولا تجاه أطفالهم الذين يقتلون وييتمون صباح مساء ولا تجاه شيوخهم الذين يهانون ، وتتذكر الأمة القائد الرباني صلاح الدين الأيوبي الذي رفض الابتسامة ما دام بيت المقدس بين براثن الصليبين وكيف سعى جاهداً لتحريره فكلل الله سعيه بالفتح المبين وهي ترى كيف هان بيت المقدس وأهله على حكام المسلمين اليوم وأصبح اقتسامه مع يهود مطلباً عربياً وإسلامياً بل إن أقصاه كاد أن يسقط وينهار دون أن تتحرك في هؤلاء نخوة أو عزة أو كرامة أو دين ، وتتذكر الأمة القائد محمد الفاتح الذي قضى على الدولة البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية وهي دولة كبرى آنذاك وهي ترى حكام المسلمين اليوم يرتمون على أعتاب البيت الأبيض وقصر الإليزيه وعشرة داون ستريت ، وتتذكر الأمة موقف السلطان عبدالحميد وتمسكه بفلسطين برغم إغراءات اليهود وضغوطاتهم واستغلالهم لضعف الخلافة العثمانية آنذاك وهي ترى حكام المسلمين اليوم يفرطون بأرض المسرى بلا ثمن وبلا حساب أو قبان ، فالأمة دائماً ما تتذكر هؤلاء المشاعل الذين أخذوا بيدها في حلكة الأزمات نحو طريق النجاة وسبيل الخلاص ،

والأمة اليوم تبحث عن صنو هؤلاء بين حكامها فلا تجد لهم شبيهاً ولا حتى شبيها لشبيههم بل لا تجد لهم رائحة ، فهي تبحث بين الحكام عن رجل رشيد يقود الأمة لطريق النجاة وسبيل الخلاص وينقذها مما تعانيه ويقودها لتقتعد منازل الكرام الأعزاء ولتقتعد المكانة المرموقة التي تليق بها كخير أمة أخرجت للناس ، فالأمة اليوم تعيش تيهاً غير مسبوق قد كلفها أضعاف أضعاف كلفة السير في طريق الخلاص وسبيل العزة والنجاة برغم وعورته وصعوبته ،

وفي هذا التيه ومن حين لآخر يتراءى للبسطاء وضعيفي البصر سراب يظنه الظمآن ماءاً وهو في حقيقته لا يعدو مجرد أوهام وتخيلات لا حقيقة له ولا وجود له في أرض الواقع ، من نظر إليه للوهلة الأولى وجد فيه الغاية والبغية والنجاة ومن خبره لم يجده شيئاً ، ففي حالة فراغ القيادة التي يعيشها المسلمون اليوم يخرج عليهم بين الفينة والأخرى بعض الحكام ببعض التصرفات الخادعة ظاهرها فيه الرجولة والشجاعة والنخوة والكرامة والدين وباطنها من قبلها الخيانة والتآمر والمكر وخدمة مخططات القوى الاستعمارية فتنخدع الأمة بهؤلاء لفترة وما ذلك إلا بسبب حالة الفراغ التي تحيياها وبسبب شوقها وحرقتها وتطلعها نحو قيادة حقيقية مخلصة تأخذ بيدها لتخلصها من حالة الانحطاط والتردي التي تحياها فكانت بذلك كالغريق الذي تعلق بقشة ظنها وهو مسحور الأعين أنها عصا غليظة كفيلة بالأخذ بيده نحو بر الأمان .

وللدلالة على ذلك أضرب مثالين اثنين ، أحدهما يظهر خداع الحكام وتقمصهم أدوار قادة الأمة والثاني يبرز مدى تطلع وتشوق الأمة للقادة الحقيقيين ، فالأول رئيس وزراء تركيا أردوغان والثاني رئيس فنزويلا تشافيز ،
أما الأول فعقب وقوع مشادة كلامية بين أردوغان ورئيس كيان يهود حول الأوضاع في غزة في مؤتمر دافوس ومغادرته للمؤتمر مغاضباً وعودته إلى تركيا، استقبل أردوغان استقبال الأبطال الفاتحين وخرجت الجماهير تهتف باسمه في أقطار شتى وطالب بعض الشباب المتحمسين في مصر ببيعة أردوغان خليفة للمسلمين ، والحقيقة أن من خبر أردوغان ومن وعى هذه الحادثة يدرك بأنها محض خداع ومجرد تمثيلية مكشوفة ، فأردوغان لو كان صادقاً في انزعاجه من جرائم يهود في غزة لما صبّ جام غضبه على منسق الجلسة في دافوس ولكان صبه على رئيس كيان يهود ، ولو كان أردوغان صادقاً في انزعاجه لقطع علاقاته الحميمة بكيان يهود المغتصب ونقض اتفاقيات تركيا العسكرية مع يهود لكنه لما سئل ذلك أجاب قائلاً(من السهل على الأعزب أن يطلق زوجه) في إشارة منه أن قطع تركيا علاقاتها الحميمة مع كيان يهود ليس بالأمر الهين اليسير، ولو كان أردوغان صادقاً في انزعاجه لقال لـ"بيرس" تأسياً بقادة الأمة الأفذاذ "الجواب ما ترى لا ما تسمع" ولأمر القوات التركية بالتحرك لاستنقاذ فلسطين من براثن يهود بل لو كان أردوغان صادقاً في انزعاجه لما جلس في مثل هذا المجلس بحضرة "بيرس" صاحب السجل الأسود الحافل بالجرائم في لبنان وفلسطين بل إنه عبر له عن تقديره له بقوله له "أنت أكبر مني سناً" والأدهى من ذلك استغلاله المكشوف لهذه الحادثة لخدمة أهدافه الحزبية المحلية واستغلال شعبيته للقيام بدور الوسيط في مفاوضات الشرق الأوسط خدمة لمصالح القوى الاستعمارية الكبرى ، وبرغم هذه الاعتبارات التي تكشف زيف موقف أردوغان إلا أن الأمة وبسبب تشوقها لمواقف العزة التي تفتقدها جراء غياب القيادة الحقيقية لها تصيب أعينها الغشاوة فتنخدع بهذه التصرفات لبرهة إلا أنها سرعان ما تكتشف حقيقة هؤلاء الحكام وخداعهم فتعود تبحث من جديد عمن يحقق لها مطلبها ويحقق مقاييس القيادة لديها ، ويذكر أن الأمة مرت بما هو أشد من فتنة أردوغان واكتشفت حقيقة الزيف والخداع الذي يمارسه هؤلاء الحكام ولو بعد حين ، وذلك كتجربة الأمة مع عبد الناصر والخميني وغيرهم .

وأما المثال الآخر فهو ينطق بلسان فصيح أن الأمة اليوم تفتقد قادتها وتصبو لعودتهم من جديد وبسبب غيابهم وعدم تشبه حكام اليوم بهم قد أعجبت الأمة بحاكم دولة أجنبي عنها ألا وهو تشافيز حاكم فنزويلا وما ذلك إلا لأنها وجدت فيه وفي مواقفه تعاطفاً قل نطيره في حكامها فوجدت فيه بعض ما تبحث عنه ، وهذا دليل على مدى الفجوة التي تشعر بها الأمة فيما بينها وبين حكامها إذ لم يرو التاريخ تعلق أمة أو شعب بحاكم دولة أخرى غريب عنها ،

وعود على بدء فللقائد-كما ذكرنا- أثر بارز على سير الأمة السياسي وعلى مكانتها لذا نجد الرسول الكريم عليه السلام قد بين أهمية دور القائد على مستوى الأمة بقوله (الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به) فقد بين هذا الحديث أهمية دور الحاكم "الإمام" في حفظ الأمة وقيادتها لساحات الوغى التي تدافع فيها الأمة عن حياضها ومن خلاله تحمل الأمة رسالتها للأمم والشعوب الأخرى رسالة خير وهدى للبشرية ، وهذا كله يفسر مدى تشوق الأمة للقيادة الحقيقة التي تلبي متطلباتها وفق مبدأ الأمة وفكرها .وإزاء فقدان الأمة للقيادة الحقيقة وتطلعها لعودتها كان لا بد للأمة من أن تسعى جاهدة لاستعادة سلطانها المسلوب لتتمكن من إخراج قيادة من صلبها ، تحمل همها وتسعى لإعزاز دينها وتقودها نحو المرتقى السامي ولن يكون ذلك إلا بالتخلص من هيمنة الإستعمار والإنعتاق من ربقة الدول الكبرى وإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة .

ليست هناك تعليقات: